الاثنين، نوفمبر ٢٧، ٢٠٠٦

الحدود كنظام عقوبات



الحدود

قد يختزل البعض تطبيق الشريعة فى إقامة الحدود , ويصورون للناس أنه إذا ما أعلن إقامة الحدود صباحا فإننا سنحصد البركات التى تنزل من السماء و تخرج من الأرض مساء , وفى ذلك تسطيح و تبسيط شديدان و عدم إدراك لجوهر الدين ومقاصده الحقيقية .
ولا يفهم من ذلك أننا ننكر الحدود أو نرمى إلى تعطيلها وإلا كنا من الجاحدين بآيات ربنا , وللخروج من هذه الدائرة و توضيح الأمر نذكر بقصة سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما أوقف حد السرقة فى عام تعرض فيه الناس للمجاعة .
أي أنه لإقامة حد السرقة لابد من توفير الحاجات الأساسية لأفراد المجتمع من مأكل و ملبس و مسكن وغيرها أولا, وبعد ذلك يمكننا الحديث عن تطبيق الحد أما قبل ذلك فلا , لأن الفقير إذا ما سرق ليسد جوع أطفاله فى مجتمع بخل فيه الغنى على الفقير واتسعت فيه الفجوة بينهما فإنه لا يمكن لومه على فعلته تلك .
وهذا يدفعنا إلى فكرة العدل دفعا , لأن إقامة العدل تسبق إقامة الحدود و تشرع لها , أما إقامة الحدود بدون إقامة العدل فهى ككلمة الحق التى أريد بها باطل , وذلك لأن واجب الإنسان فى الالتزام بعدم الاقتراب من النواهى التى تستلزم الحدود إنما خرج فى الأصل من حقوق وهبها الله له تكفل له عدم الاقتراب من منطقة الحدود , ولهذا فإن اقترب وقع عليه الحد لأن تجاوزه كان عن فساد لا عن حاجة , أما أن ننتزع من الإنسان حقوقه التى تستقيم بها حياته ثم نطالبه بالالتزام بواجباته وإلا أقيم عليه الحد فهذا سفه و هوى .
أي أن إقامة العدل هى أصل الشريعة و بناء عليها تقوم الواجبات و العقوبات .

و الأفعال المحرمة التى وضع الله لها الحدود كعقوبة هى فى الأصل منكرة و مجرمة فى كل دين و عرف إلا أن أسلوب العقاب عليها يختلف , ففى الإسلام العقوبة جسدية فى أغلب الأحيان وهى ثابتة و محددة بأوامر الله عز و جل , أما فى مجتمعاتنا وفى أغلب الأرض فإن الناس قد اتفقوا على السجن كعقوبة على كافة الجرائم , وبحسب قوة الجريمة و مدى ضررها تكون فترة السجن .
وإذا كان الهدف من العقوبة هو ردع من يفكر فى فعل الجرم الذى يستلزمها والأخذ على يد من يفعل هذا الجرم فلا يعود له , فإن نظام العقوبات الأمثل هو الذى ينجح فى تحقيق هذين الهدفين , فأي النظامين هو الأنجح و الأقدر على تحقيق هذين الهدفين , الحدود أم السجن ؟
وللإجابة على هذا السؤال فلابد من دراسة هذين النظامين كل على حدة من حيث تأثيره على المجتمع و الفرد وقدرته على الردع ومدى الصرامة فى تطبيقه .

فالسجن هو انتزاع الحرية بشكل كامل من الإنسان المخطئ و عزله عن المجتمع وحبسه بين أربعة جدران لأنه أصبح عنصرا هادما لابد من إقصائه ووضعه فى سجن كبير مع المجرمين و الخارجين عن القانون أمثاله , فيصبح هذا السجن أكاديمية على أعلى مستوى للإجرام و الانحراف الأخلاقي , يتعرف فيها المفسدون فى جميع التخصصات على بعضهم البعض و يتبادلون المعارف و التقنيات الحديثة فى عالم إجرامهم , ويشكلون فرق عمل جديدة تبدأ فى العمل الإجرامي بمجرد خروجها من السجن , فيصبح من سجن فى سرقة محفظة مثلا قادرا على سرقة بنك , و من سجن لأنه يتعاطى المخدرات أسطورة فى تجارتها , ومن سجن لأنه جرح صديقا له فى شجار عن غير قصد قادرا على إزهاق الأرواح .
وذلك لأننا قد نمينا لدى كل منهم حسه الإجرامي و سخطه على المجتمع الذى عزله و رغبته فى الانتقام منه , و عرفناه على أكابر المجرمين الذين صاروا أساتذته وقدوته فعلموه شتى أنواع الانحلال داخل السجن , فينتشر الشذوذ الجنسي كوسيلة لتصريف الشهوة الجنسية فى عالم غابت عنه القيم , و تنتشر المخدرات كوسيلة لقتل الوقت بالسجن .
وبانتهاء فترة العقوبة التى تتراوح بين شهور و عشرات السنين بحسب الجرم المقترف يخرج هؤلاء إلى المجتمع من جديد ناقمين عليه عاجزين عن الاندماج فيه , سواء بسبب ما أصابهم من خلل نفسي و أخلاقي أو بسبب تطور هذا المجتمع , أو بسبب نظرة هذا المجتمع لهم والتى تتوجس منهم خيفة و تنبذهم و تحبسهم فى أنفسهم , فيصبحون أعجز و أخطر من ذى قبل وترتفع لديهم القابلية لخيانة الوطن ككل .
ومن هذه السجون أيضا يخرج الفكر المتطرف و إرهاب المسلمين فى ديارهم قبل غيرهم بتفجير تجمعاتهم و أسواقهم , فالقهر الذى تعرض له من ينفذون هذه العمليات داخل سجون أوطانهم وسكوت مجتمعاتهم على حبسهم و تعذيبهم وما ينتج عنه من حقد على هذا المجتمع و رغبة فى الثأر منه , كل ذلك يؤدى بهم الى تلك الممارسات الشاذة التى تخرجهم هم أنفسهم من الدين الذى يتصورون أنهم يدافعون عنه .
ومن ناحية أخرى فان قدرة السجن كعقوبة على الردع غير كافية و تكاد تتلاشى فى شرائح معينة من المجتمع , فمثلا من يسرق لأنه لا يجد ما يأكله قد يرى فى السجن بديلا غير سيء حيث سيتوفر له المأكل و المأوى دون مقابل , ولا يهتم بما يعنيه السجن من قهر وانتزاع لحريته لأنه فى الأصل لا يشعر بآدميته حتى يفكر فى حريته , وتصبح حياته بين ممارسة الجرم الذى يدر عليه الدخل اللازم لتوفير أساسيات حياته وبين السجن , يخرج من السجن إلى الجريمة ومن الجريمة إلى السجن ولا يبالى بأيهما يكون , فهما لديه يستويان !
وفى مجتمع كمجتمعنا سيطر فيه سلطان الفقر على أكثر من نصف أهله , نجد عشرات الآلاف ممن هم على أتم الاستعداد لتحمل تبعات جرم غيرهم و دخول السجن بدلا منهم فى مقابل بعض المال الذى يصلح به حياته بعد خروجه من السجن , أي أنه يضطر إلى بيع حريته و سنوات من عمره فى مقابل توفير بعض أساسيات حياته والتى هى فى الأصل حق من حقوقه الأساسية الأصيلة حرمه منها الفاسد الذى سرقها من أموال الأمة ثم حبسه بدلا منه راضيا مقهورا بفقره فى مقابل بعض فتات مائدته , وتتكرر القصة كل يوم فيزداد الفاسدون و تزداد جرائمهم و يزداد المقهورون المسروقون المسجونون , و تزداد الهوة بين طرفي المجتمع .
ولو لم يجد هؤلاء الفاسدون من يتحمل عنهم العقاب فبما أن القانون فى الأصل قد وضعه بشرى طبقا لرؤيته , فمن حق بشرى آخر أن يتجاوز أو يصفح عن حق أمة بكاملها فى مقابل تسوية مربحة , ولو لم يجدوا البشرى الذى يتجاوز وهذا نادر , فإذا كان من الممكن تحويل السجن إلى فندق خمس نجوم ببعض النفقات البسيطة نسبيا عن طريق بشرى ثالث فلا بأس وذلك حتى يتمكنوا من الهروب من السجن فيما بعد عن طريق بشرى رابع ثم الهروب من البلاد عن طريق بشرى خامس .
كل ذلك يجعل من الجريمة و الفساد مشروعا مربحا و مغامرة مقبولة بل و مغرية , حيث أن عواقبها السيئة قليلة و محدودة ويمكن تفاديها بسهولة , ويكون العنصر الحاكم فى تنفيذ هذا المشروع هو تكاليفه وهى ما سيدفع للمتجاوزين هنا و هناك ويتحدد بقدر المتجاوز وقيمة تجاوزه وما حصل عليه المجرم الأصلي صاحب المشروع .
وهكذا نشأ سوق الفساد بقوانينه و أعرافه و تسعيراته , و تضخم و تعملق و تشعب حتى صار هو السوق الحاكم المسيطر على السوق الكلى و الحياة العامة , فأي ردع قد يمثله السجن لأمثال هؤلاء ؟!
ومن جانب آخر , وبعيدا عن عنصر الردع الغائب فى عقوبة السجن , فإن السجن وما خلفه من قوانين عاجزة و مؤدية إليه يمثل دافعا لشريحة من الشرفاء أو لمن تبقى منهم نحو الجريمة , فمثلا إذا قتل أحدهم أباك وكان عقاب المجتمع له هو بضعة سنوات من السجن فان ذلك قد لا يشفى غليلك , وقد تسعى لقتل ذلك القاتل بأى ثمن خاصة و أن شرع الله يقر القصاص ولكن مصيرك سيكون السجن , فكيف يستوى القاتل ظلما و القاتل قصاصا ؟!
وإذا اغتصب أحدهم زوجتك أو ابنتك وكان عقاب المجتمع له هو الحبس فان ذلك قد لا يشفى غليلك , ولابد أنك ستسعى لقتل هاتك الأعراض هذا بأي ثمن ولكن مصيرك سيكون السجن , فكيف يستوى هاتك الأعراض و المدافع عنها ؟!
وقس على ذلك عشرات الحالات والتى تمثل عقوبة السجن فيها عنصرا مستفزا للمجني عليه أو لوليه يدفعه للثأر بتنفيذ شرع الله أو بتنفيذ ما يراه مناسبا من وجهة نظره ليشفى غليله .
هذا بالإضافة إلى التأثير السلبي الممتد لعقوبة السجن على أهل المسجون , فهى تمثل سبة تلاحقهم وتحرمهم من كثير من حقوقهم فتدفعهم بذلك إلى الجريمة ما داموا موصومين بها على أي حال , كما تمثل عقابا لزوجة المسجون بحرمانها من حقوقها الزوجية وهو ما قد يفتح بابا جديدا للرذيلة .
من كل ما سبق يظهر جليا أن السجن كنظام عقوبات وكل ما يؤدى إليه من قوانين هو نظام عقوبات فاشل لا يمكنه حفظ المجتمع ولا يستطيع توفير الحد الأدنى من الردع اللازم لإبعاد الناس عن فكرة تجاوز النظام العام , و تجربتنا معه كأمة أثبتت بما لا يدع مجالا للشك أنه كان من أكبر أسباب ضياع الحقوق بين الناس و تحللهم من واجباتهم وانتشار الفساد وتوغله فى شتى مجالات الحياة العامة .
أما الحدود فهى نظام عقوبات إلهي شرع الله فيه عقوبة خاصة لكل جرم قد يقترفه الإنسان الذى هو خلق من خلق الله , فمثلا القاتل يقتل و الزانى يجلد أو يرجم والسارق تقطع يده , وإيماننا بالله يقتضى الإيمان بأن إقامة هذه الحدود فى مجتمعاتنا كفيل بدحر الفساد و الرذيلة و حفظ الحقوق , كذلك فإن تاريخ هذه الأمة يثبت أنها ما سادت و تفوقت إلا بتطبيق الشريعة وإقامة هذه الحدود , وما هانت و تقزمت إلا بترك الشريعة و الحدود .
ولكن نبدأ بفكرة مدى الصرامة فى تطبيق الحدود و الهدف منها لأن البعض قد يرى فى الحدود عقوبات مغلظة عنيفة , ويرى فى تنفيذها ظلما للمجتمع ولمن قام بالجرم الذى استوجبها , ولهؤلاء نوضح من خلال مثال مباشر وليكن حد الزنا المقصود بالحدود والهدف الحقيقي من وراء تطبيقها .
فإذا كان حد الزنا لا يطبق إلا بشهادة أربعة شهود يشهدون بأنهم قد شهدوا واقعة الزنا وعلى يقين من حدوثها ومن طرفيها المتورطين فيها , فهنا نسأل بالله , من ذا الذى يزنى على وجه هذه الأرض و يراه أربعة أشخاص إلا إذا كان يزنى فى مكان عام أو على الأقل غير مستور , بمعنى أنه قد جهر بجريمته ولم يهتم بسترها عن الأعين , فالزانى حين يزنى يعلم أنه يقترف إثما بالفطرة , ويسعى بطبيعته الإنسانية إلى الاختباء بفعلته عن أعين الناس , أما إذا صار الإنسان كالحيوان و خالف فطرته وجهر بالزنا أو لم يهتم بستر نفسه ورآه الناس , ولا نقول فردا أو فردين أو ثلاثة وإنما أربعة فإنه يصير مستحقا للعقاب الذى يردعه و يردع غيره , ومن هنا يظهر أن حد الزنا ليس عقوبة على فعل الزنا وإنما هو عقوبة على من جهر بالزنا .
وقد يرى البعض أن توقف تطبيق حد الزنا على شهادة الشهود الأربعة يسهل على كل من يحمل ضغينة لإنسان أن يشترى شهودا بالزور فيشهدوا أنهم شاهدوه أو شاهدوها فى حالة الزنا و يقام الحد , وقد يكون الأمر بهذه السهولة إذا ما كان المشرع الذى شرع تلك العقوبة بشريا مثلنا يخطئ و يصيب , وقد يترك مثل هذه الثغرة لحاجة فى نفسه أو فى نفس من وكل إليه العمل , أما و المشرع هو رب العالمين الذى يعلم السر و أخفى فإن الأمر يختلف , فقد وضع الله جل و علا لعلمه بمن خلق حدا آخر لمن يتجرأ على أن يشهد زورا أو يتهم بريئا بالزنا وهو حد القذف , وفيه يجلد من اتهم بريئا بالزور ولا تقبل منه شهادة بعد ذلك وفى ذلك ردع شديد وعقوبة مغلظة على فعل من أفعال اللسان قد يبدو للبعض هينا ولكنه عند الله عظيم .
ووجود الشهود الأربعة أمر حتمي لإقامة حد الزنا , ولا يمكن إقامة الحد بأقل من أربعة شهود ولو كان فيهم ولى أمر المسلمين عامة , فلو شهد ثلاثة مثلا على واقعة زنا فإن شهادتهم لا يؤخذ بها بل و يقام عليهم الحد لأن نصاب الشهادة لم يكتمل , وللتدليل على ذلك نذكر قصة أمير المؤمنين سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما شاهد واقعة زنا بأم عينه فذهب إلى مجلسه و أخبر أهل الشورى بما رأى فقاطعه الإمام على كرم الله وجهه قائلا حسبك يا أمير المؤمنين , فقال عمر لقد رأيت بعينى , فيرد الإمام على : لو نطقت باسمهما أقمنا عليك الحد , فسكت أمير المؤمنين و خليفة المسلمين و رئيس أعظم دول الأرض فى زمانه سيدنا عمر بن الخطاب , ويمكننا من خلال هذه القصة أن نستخلص عشرات الدروس و العبر التى ينصلح بها حال الأمة عامة ولكن يكفينا ما ينفعنا فى مقامنا هذا وهو ضرورة وجود الشهود الأربعة الذين لا يقوم مقامهم شخص ولو كان أفضل أهل الأرض عند الله و أعلاهم شأنا بين الناس , ولإثبات نفس الفكرة نذكر قصة لنفس الرجل وهو الفاروق عمر بن الخطاب حين جاءه أربعة رجال يشهدون على واقعة زنا , فشهد ثلاثة وقال الرابع أنه شاهد الواقعة ولكن الرجل الذى كان مع المرأة المتهمة يشبه زوجها , فما كان من عمر إلا أن أقام الحد على الثلاثة الآخرين بعدما رأى أن شهادة رابعهم لا تدعمهم .
مما سبق تظهر ضرورة وجود الشهود الأربعة لإقامة حد الزنا والذين يتعذر وجودهم فى الحياة الواقعية إلا إذا كان الزانى كما ذكرنا يجهر بخطيئته .
ومن ناحية أخرى فالحد يسقط بالشبهات وبرجوع المقر على نفسه عن إقراره , والستر هو الأوجب سواء كان ستر النفس أو الناس , فالزانى عليه أن يستر نفسه فلا يعترف بجريمته إذا كان الله قد ستره عن عيون الناس , وعلى الناس أن يستر بعضهم بعضا فى غير تدليس , وعلى الحاكم ألا يسعى لكشف ستر الناس والتلصص على حياتهم الخاصة , فواجبه هو إقامة الحد على من كشف الله له ستره وليس تعيين حارس لكل مواطن يراقب تحركاته ويتصيد أخطاءه , فعن أبى هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( ادرأوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم , فان كان له مخرج فخلوا سبيله , فإن الإمام إن يخطئ فى العفو خير من أن يخطئ فى العقوبة ) .
وكذلك قصة الرجل الذى جاء لرسول الله صلى الله عليه وسلم ليخبره بأنه قد زنا محاولا التخلص من عبء الذنب و تطهير النفس , فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلك قبلت , فقال لا بل زنيت , فقال له لعلك ..... ثم لعلك ..... , مما يدل على أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يحاول أن يخرج بالرجل من جرم الزنا الذى اعترف به إلى معصية أهون , حتى أقر الرجل بالذنب أربع مرات فأقام عليه الحد ,وأثناء إقامة الحد رجع الرجل عن إقراره وهرب فلحقه الناس وقتلوه فلامهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك قائلا ( هلا تركتموه ؟! ) ثم أوصى صلى الله عليه وسلم ألا يكشف أحد ستر الله بعد أن ستره ويفضح نفسه .
من كل ما سبق يظهر أن المقصود بحد الزنا ليس من زنا وإنما من جهر بالزنا , وأن الغرض من العقوبة هو الردع وليس التطبيق , لأن الشرط الذى اشترط للتطبيق يصعب حدوثه فى أرض الواقع إلا مع من أراد الله أن ينتقم منه و يحرمه من ستره , ولا يكشف الله ستره عن إنسان فى جرم يقترفه إلا إذا كان هذا الإنسان قد اعتمد ذلك الجرم كجزء من حياته , فالهدف الرئيسي من تطبيق حد الزنا هو إخلاء المجتمع من الداعرات و القوادين و المتاجرين بأعراض الناس , وهؤلاء هم المتضررون الوحيدون من تطبيق هذه العقوبة , وهؤلاء من تفهم معارضتهم لتطبيق الحد , بينما لا تفهم معارضة غيرهم إلا أن يكونوا أمثالهم أو أن يكونوا من المستفيدين بشكل ما من شيوع الفاحشة و الرذيلة فى المجتمع , أما الشرفاء أو من يخطئون بحكم بشريتهم وضعف إيمانهم و إرادتهم فلا يشكل لهم تطبيق هذا الحد أى ضرر بل يعصمهم من احتمالات الوقوع فى الرذيلة بعد أن ردع قادتها و محبيها والساعين لنشرها فى المجتمع .
و بالنسبة لباقى الحدود عموما فالهدف الرئيسي واحد ويجمع بين تحقيق الحد الأقصى من الردع الذى يمنع الناس من التفكير فى الاقتراب من الجرائم التى تستوجب الحدود والحد الأقصى من التضييق على فرص تنفيذ العقوبة فعليا , وكل ذلك لا يكون إلا بعد توفير مناخ عام من العدالة وإحقاق الحقوق التى كفلها الله للناس والتى تعصمهم أصلا من الوقوع فيما يستوجب العقاب .
وباقى الحدود كحد القتل أو السرقة أو شرب الخمر أو الحرابة لا يخشاها ويقاومها ويرفض تطبيقها إلا قاتل أو سارق أو مدمن خمر أو مفسد فى الأرض يخون أمته ويكيد لها , وذلك لأنه فى حالة كونك إنسانا عاديا إن أخبرت أن من يقتلك سيقتل فإن ذلك ولابد سيشفى غيظك حين تتخيل أن يدا ستمتد إليك لتقتلك , بل وربما تطلب فوق قتل صاحب هذه اليد تمزيق جثته انتقاما منه , لأنه فى غياب سبب شرعي للقتل كالجهاد أو القصاص أو غيره فان القتل يكون خطيئة كبرى يستحق مقترفها السحق لا القتل فى نظر المقتول ووليه وكثير من الناس .
وكذلك الحال إن أخبرت أن من يسرق منك شيئا سنقطع يده حفاظا على حقوقك فلابد وأنك سترضى بذلك وترى فيه تهديدا كافيا لمن تسول له نفسه الاعتداء على ما تملك , وإن أخبرت بأن شخصا ما أدين بتهمة خيانة الوطن مثلا فلابد وأنك ستطالب بتمزيقه إربا , وذلك لأنك أبيت وبشدة أن يحيا بيننا من يهدم ما نبنيه ويكيد لنا ويكون عينا لعدونا علينا .
أما إن كنت أنت القاتل الذى يخشى أن يقتل أو السارق الذى يحب الاحتفاظ بيده أو مدمن الخمر الذى لا يفكر مطلقا فى الإقلاع عنها أو أحد المفسدين فى الأرض على اختلاف أحوالهم و أهدافهم , فلابد وأنك ستقاوم تطبيق الشريعة ككل وإقامة الحدود بشكل خاص وتصفها بالرجعية وغيرها من الصفات المجهزة فى قوالب منذ عشرات السنين والتى سبقك إليها أجدادك من القتلة و الفجرة .
وهكذا يصير الناس إلى صنفين , فإما رجل لا يظلم ولا يحب أن يظلم , وإما ظالم محترف يرفض أن يحاسبه أحد أو أن يوقف ظلمه أحد , وتبعا لحجم كل من الصنفين و قوتهما فى مجتمعهما يكون الشرع الحاكم .

ومن ناحية أخرى وبمقتضى إيماننا بالله واليوم الآخر فعلينا ألا ننظر للحدود على أنها مجرد عقوبات تنفذ فى الدنيا هدفها الردع وحفظ الحقوق والأعراض , وإنما هى حق من حقوق الله ورحمة منه يطهر بها عبده المخطئ فى الدنيا فيلقاه يوم القيامة مطهرا لا يحمل وزره على ظهره , ولو لم يطهر العبد من ذنبه فى الدنيا بإقامة الحد عليه فسيطهره الله منه يوم القيامة بعذاب الجحيم , فأيهما أيسر عند كل ذى عقل , عذاب جهنم فى الآخرة أم إقامة الحد فى الدنيا ؟!!

وسبحان الذى خلق الإنسان وشرع له من النظم ما تستقيم به حياته بناء على علمه بمن خلق , ولكن الإنسان ظلوم جهول !

1 Comments:

At ٣/٠٨/٢٠١٤ ٦:٠٤ ص, Blogger قنديل said...

بسم الله أبدء كلامى

أتفق معك فى كل حرف وليس كل كلمه
أصبحت مصيبتنا فى ديننا والدنيا أكبر همنا ومبلغ علمنا إن كنا نحن لسنانائمون فكم منا يلزم لصحوة أمه نحن فيها حبات رمل فى الصحراء أرجو التواصل وإن شاء الله أفيد

 

إرسال تعليق

<< Home