الاثنين، نوفمبر ٢٧، ٢٠٠٦

اتجاه الإرادة الجمعية للأمة وماهية المنهج السليم


اتجاه الإرادة الجمعية للأمة :

والدليل على ذلك يظهر جليا من خلال مزحة الانتخابات المصرية الأخيرة سواء الرئاسية أو البرلمانية , و ذلك من خلال نسب المشاركة فيها و نتائجها و ما حدث بها من تجاوزات , فنسبة المشاركة بالانتخابات المصرية عامة تتراوح بين 18% :23% ممن لهم حق التصويت و البالغ عددهم 32 مليون كما بالإحصاءات المعلنة رسميا , و 50 مليون كما تقدرهم بعض قوى المجتمع المدني , أي أن عدد من يشاركون من شعب مصر البالغ تعداده 76 مليون إنسان فى عملية اختيار رئيس الدولة أو من يمثلون الشعب فى البرلمان يتراوح بين 5 : 7 ملايين , أي أن هناك 70 مليون مصري تجاوزا من 76 مليون ينأون بأنفسهم عن المشاركة فى العملية الانتخابية و التى يخرج عنها من يتحكمون فى أرزاقهم و مصائرهم و لذلك دلالات خطيرة و مبشرة على عكس ما يرى الكثيرون .
فامتناع هذا الشعب عن المشاركة فى العملية الانتخابية لم يخرج من سلبية هذا الشعب كما يتصور البعض , ولا من جهل مطبق كما يتصور آخرون .
وإنما خرج من حكمة تحيا فى ضمائر شعب عظيم , و خبرة تحملها تجربة آلاف السنين , وصبر ما بعده صبر , و رباط ليس كمثله رباط .
و لتوضيح ذلك علينا أن نناقش بشيء من التفصيل تجربة الانتخابات الرئاسية الأولى فى مصر و انتخابات مجلس الشعب لعام 2005 .
و إذا بدأنا بالانتخابات الرئاسية لوجدنا ضغوطا داخلية و خارجية تدفع جميعها فى اتجاه تعديل الدستور و تحويل عملية اختيار رئيس الدولة من الاستفتاء إلى الانتخاب المباشر بين أكثر من مرشح , و على الجانب الآخر نظام يعارض و باستماتة من قمته إلى قاعدته أي تعديل للدستور و يصف ذلك بالبطلان فى حال حدوثه .
ثم فوجئ الجميع و قبل موعد الانتخابات الرئاسية بوقت قصير بإعلان رئيس الجمهورية تعديل المادة 76 بالدستور و تحويل نظام انتخابات الرئاسة من الاستفتاء إلى الانتخاب المباشر , وأحيل المشروع إلى مجلس الشعب سريعا ليحدد الشروط الخاصة بالمرشحين و يضع صياغة التعديل , ولأن مجلس الشعب ليس إلا جهازا تابعا للحزب الوطني الحاكم بحكم تمتعه بالأغلبية الساحقة الصاعقة فيه , فقد نجح فى تمرير تعديل ممسوخ يحمل من السلبيات و المصائب ما يحمل , ولكن أبرز ما كان يحمله هو جهر الحزب الوطني بفرض إرادته على شعب مصر رغما عنه و أمام عينه لا فى لحظة تغافل , و توجيه رسالة كرسائل القوى الغازية للشعوب المحتلة , مفادها أنه لن يقبل إلا أن يحكمنا رغما عنا , و أن علينا أن نتغافل كعادتنا و أن نشترك فى المسرحية الهزلية التى خطط لها لنظهر أمام أنفسنا و أمام الناس وكأن لنا إرادة نعبر عنها و ننفذها , ثم نعود لحظائرنا و جحورنا !!!
فقد وضع شروطا للترشح لا يستطيع الوفاء بها إلا أولو العزم من الرسل , فكيف يستطيع مرشح مستقل الحصول على تأييد 250 عضو من أعضاء المجالس التشريعية و النيابية و التى تقع بالكامل تحت سيطرة الحزب الحاكم .
و كيف يستطيع حزب هو فى الأصل عبارة عن لافتة بالية و صحيفة فقيرة و دورة مياه من الحصول على 5% من المجالس المسبحة باسم الحزب الوطني ؟!!
و لأنهم يدركون ذلك ولإتمام المسرحية الهزلية فقد سمح التعديل و كحالة خاصة بتلك الانتخابات الرئاسية الأولى بترشح رؤساء الأحزاب بدون الحصول على نسبة ال5% المقررة .
و ترشح رؤساء الأحزاب البضعة عشر إلا حزبين , وبدأت فصول المسرحية فى التكشف أكثر فأكثر بعد أن اكتشف الشعب وجود أحزاب ورقية بمصر تقع بالكامل تحت سيطرة الحزب الوطني و أعدت ليوم كهذا , وذلك لأن المرشحين البضعة عشر لم يكونوا مؤهلين لخوض انتخابات مجلس الشعب لا رئاسة الدولة , فلم يكن لأي منهم برنامج انتخابي واضح , ولا رؤية واضحة يستطيع أن ينقذ بها هذا الشعب من براثن الفساد و الفقر , بل و الأكثر من ذلك مما يثير السخرية و الشفقة على هذه الأرض الحزينة هو تقدم بعضهم ببرامج و أهداف تدفع الجماهير عنهم , و ترسخ فى داخلها عدم صلاحية أي من هؤلاء لرئاسة الدولة مطلقا , مما يصب تلقائيا فى صالح مرشح الحزب الوطني و رئيس الدولة , فمنهم من خرج ينادى بعودة الطربوش للرجل و البيشة للمرأة كزي رسمي , و كأن حل مشكلة الأمة و طريق عودتها لحاضر الكوكب و مستقبله يكمن فى إعادة الطربوش و البيشة !
و منهم من خرج يندد بقرار فصل مصر عن السودان و الذى كان منذ عشرات السنين و ينادى بعودة وحدة وادى النيل , ولم يحدد كيف و تحت أي منهج , و كأنه لا يعلم شيئا عما يحدث بالسودان من انقسام بين أهله , وكأن هذا القرار هو ما أثار ضيقه فى تاريخنا المليء بالخطايا و اللطمات و التنازلات المرة , وكأن هذه الوحدة هى ما ينصلح به حال هذا الشعب الذى من المفترض أن يسعى لكسب تأييده.
بل و خرج منهم من يبايع مرشح الحزب الوطني و رئيس الدولة و يعلن أنه و حزبه سينتخبونه لأنه الأفضل و الأحق بالفوز , فلم رشح نفسه فى الأصل ضده طالما أن هذا هو موقفه , أطمعا فيما تمنحه الدولة لمرشحي الرئاسة أم سعيا وراء الشهرة والشاشات أم انصياعا لأمر الاشتراك بالمسرحية أم كل هذا و غيره مما لا نعلمه .
و هكذا كان المرشحون , و هكذا رآهم الشعب الفطن الذى وجد نفسه أمام أربعة خيارات لا خامس لها , فإما أن يختار الحزب الوطني والذى يرى فيه سبب أزمته الرئيسي , وإما أن يختار أحد المرشحين الذين لا نثق فى قدرتهم على إدارة بيوتهم حتى نخول لهم سلطة إدارة أمة , وإما أن يعلن الإضراب و العصيان والذى يمثل كارثة الكوارث و أخطر الخيارات فى ظروف كتلك التى نحياها وفى ظل عدم وجود فكرة ظاهرة يتوحد عليها الناس.
أما الخيار الأخير فهو مقاطعة تلك الانتخابات و الامتناع عن المشاركة فيها وترك المجال أمام الحزب الحاكم و مؤيدوه و أصحاب المصالح معه و شريحة من فقراء هذا البلد قد تبيع صوتها للحصول على المال لإنجاح مرشحه .
و بناء على موازنة دقيقة جرت فى ضمير هذا الشعب , و رغبة منه فى التعبير عن رفضه وبمعيار أفضل الأسوأ اختار خيار المقاطعة وترك الأمر يجرى كما خطط له.
و بالفعل كان ذلك ما حدث , فلم يشارك فى انتخابات الرئاسة سوى ما يقرب من سبعة ملايين مواطن من شعب مصر , كان نصيب مرشح الحزب الوطني و رئيس الدولة منها ستة ملايين صوت , أي أن ستة ملايين مصري قالوا نعم لنظام الحكم القائم و سبعين مليون قالوا لا تجاوزا , فأي عرف هذا الذى تعطى فيه الشرعية لنظام حكم يؤيده أقل من 8 % من شعبه ؟!!
و هكذا أعلنت الأغلبية الصامتة عن نفسها و بقوة , إلا أنها لم تعلن عن إرادتها وتوجهها , فما أعلنته هو رفض النظام القائم و رفض الاشتراك فيما يفضى حتما إلى استمراره , ولكنها لم تحدد البديل المناسب من وجهة نظرها لأنه لم يكن مطروحا ضمن البدائل المفروضة عليها .
ثم جاءت الانتخابات البرلمانية و بنفس نسب المشاركة الهزيلة , إلا أنها أظهرت اتجاه إرادة هذا الشعب و المنهج الذى يريده فى حكم حياته , بعد أن طرح عليه البديل الذى ينتظره و يتمناه وهو الإسلام وان كان قد طرح مشوها مبتورا , تابعا لا متبوعا , ممثلا فيمن لا يجب أن يمثلوه وهم جماعة الإخوان المسلمين , حيث حصلت تلك الجماعة منفردة على خمس مقاعد المجلس و البالغ 88 مقعدا فى سابقة هى الأولى من نوعها , فما حصل على هذه النسبة أي اتجاه أو حزب من قبل , ولو سارت الانتخابات بشكل طبيعي دون تدخل من قوات الأمن و البلطجية المأجورين لحصدت تلك الجماعة أكثر من ذلك بكثير , فبعد أن اكتسح الإخوان نتائج المرحلة الأولى بدأت تجاوزات الأمن المتحرك بأوامر الحزب الوطني , حتى وصلت فى المرحلة الثالثة إلى محاصرة اللجان الانتخابية , ومنع المواطنين من الإدلاء بأصواتهم فى الدوائر التى يخشى من تفوق الإخوان فيها , بل والاصطدام بالجموع التى أرادت الدخول للتصويت و إيقاع أربعة عشر قتيلا و خمسمائة مصاب , و رأى العالم عبر الشاشات بعض الناخبين ممن نجحوا فى الالتفاف على الحصار الأمني وهم يتسلقون أسوار اللجان ليتمكنوا من الدخول و الإدلاء بأصواتهم وكأنهم لصوص وليسوا أصحاب حق !
هذا بالإضافة إلى الاعتداء على بعض القضاة المشرفين على اللجان والذى يمثل سابقة خطيرة تنذر بسقوط مؤسسة القضاء و تعلن قوى الأمن سلطة فوق جميع السلطات , وسيفا مسلطا على رقاب الجميع يبطش بمن تسول له نفسه التحرك على غير الخط الذى رسم له .
هذا بالإضافة إلى مجموعة من التجاوزات المحفوظة و المتكررة و التى أصبحت ركنا أساسيا من العملية الانتخابية فى مصر , كتلك المتعلقة بقوائم الناخبين وتصويت الأموات و منع الأحياء و شراء الأصوات حتى وصل سعر الصوت فى بعض الدوائر إلى ألف جنيه و تجاوزت نفقات بعض المرشحين الخمسين مليونا .
كل ذلك كان للقضاء على فرص جماعة الإخوان المسلمين فى التقدم بعدما حصدته من مقاعد فى المرحلة الأولى والتى تميزت بحياد قوات الأمن و عدم تدخلها , وما كان ذلك الحياد إلا لتحقيق تلك النتيجة ليستخدمها النظام الحاكم فى الضغط على حلفائه الخارجين الذين يضغطون عليه لإقامة انتخابات ديموقراطية وكأنه يقول لهم أن الديموقراطية و الممارسة الانتخابية السليمة ستأتى بالإسلاميين الذين يريدهم الشعب و الذين يمثلون أسوأ البدائل فى نظر هؤلاء الحلفاء , وبالفعل حدث بعد ذلك ما ذكرناه من ممارسات مشينة , و قتل من قتل و أصيب من أصيب و منع من منع , ولم يتحرك هؤلاء الحلفاء الذين يقيمون الدنيا ولا يقعدونها إذا ما مس فأر يواليهم بسوء .
ولم يكن التصويت بتلك الكثافة لمرشحى جماعة الإخوان مبنيا على شعبية تلك الجماعة كما قد يتصور أتباعها .
و كذلك لم يكن تصويتا انتقاميا فحسب , الهدف منه إسقاط مرشحى الحزب الوطني بعد أن ضاق بهم الناس كما يتصور آخرون , فلو كان الهدف هو إسقاط الحزب الوطني فقط , فلم لم تتجه الأصوات إلى مرشحى الأحزاب السياسية على مختلف توجهاتها والتى حصلت مجتمعة على أقل من 3 % من مقاعد البرلمان ؟!!
وإنما كان تصويتا للإسلام الذى اتخذت منه تلك الجماعة دون وجه حق شعارا لها كحل لجميع مشاكلنا وهو كذلك بلا ريب .
فإرادة الناس تتجه إلى الإسلام , ولم يكن معروضا عليهم كممثل للإسلام فى تلك الانتخابات إلا جماعة الإخوان , فأعرضت الأغلبية عن المشاركة كحالها دائما لأنها وان كانت تريد الإسلام كنظام حياة فإنها لا تريده ممثلا فى واحدة من الجماعات الإسلامية التى نحاذر منها جميعا و يعلم أكثرنا فساد مناهجها و تاريخها .
إلا أن شريحة صغيرة من بسطاء هذه الأغلبية قررت المشاركة واختيار مرشحى الإخوان بمعيار أفضل الأسوأ مجددا, حيث رأت أنهم و فى أسوأ الأحوال يمثلون بديلا أفضل من الحزب الوطني الذى ذاقوا معه المر أصنافا و ألوانا ومن الأحزاب السياسية المتأرجحة بين مناهج اليمين و اليسار والتى لا تعلم عنها تلك الأغلبية شيئا ولا تريد أن تعلم .
وهكذا فاز الإخوان لا الإسلام , إلا أنهم محسوبون عليه ويتحمل كل ما ينتج عنهم من أخطاء , تماما كما كان الحال مع طالبان و الجهاد و الجماعة الإسلامية وغيرهم من الجماعات , فتزداد بذلك صورة الإسلام تشوها فى عيون أبنائه و أعدائه .

و بعيدا عن الأحزاب السياسية التخيلية و الجماعات الإسلامية الضالة , إذا ما نظرنا لعموم الأمة لوجدنا أغلبية عظمى من الناس تؤمن بالله و تقيم الإسلام فى حياتها الخاصة من عبادات مفروضة و أخلاق حسنة و معاملات عادلة , و تعلم أن سبب ضياعنا و فساد حالنا هو عدم تطبيق الإسلام فى حياتنا كنظام حكم رغم علم الجميع أنه ما من مصلحة للناس إلا و لها فى تشريعاته ما يحميها و يدفع إليها .

ويمثل هذا الاتجاه تيارا جارفا داخل تلك الأغلبية الساكنة المتربصة والتى إن خرجت يوما لحزمت أمرها فى ساعة من نهار , ولكن ما الذى يبقيها ساكنة هكذا إذا كان لها كل هذه القوة داخل المجتمع ؟!
و الإجابة على هذا السؤال تكمن فى أمر واحد وهو الجماعات الإسلامية ..... نعم الجماعات الإسلامية هى العائق الأكبر و الحاجز المنيع بين الأمة و طلب تطبيق الشريعة , و لولا وجود تلك الجماعات لما وصل حالنا إلى ما نحن عليه , و لكان الإسلام هو منهج دولتنا منذ قرون وليس سنين , فمنذ أن أطلت علينا تلك الجماعات و الفرق بوجهها القبيح و ممارساتها الشاذة البعيدة كل البعد عن الإسلام و كان ذلك منذ قرون و نحن نتشرذم و نتفتت و نسحق تحت أحذية أعدائنا .
وسبب إحجام الغالبية العظمى التى تريد تطبيق الشريعة عن إعلان مطلبها والخروج لإظهاره كباقى القوى الوطنية هو خشيتها من أن يذهب الأمر إذا ما نودي بالإسلام لأحدى تلك الفرق الإسلامية فنضيع أكثر و أكثر .
و إذا ما نودي بالإسلام فأي المناهج نطبق ... وهى كثيرة ومتضاربة , وما خرجت إلا من تلك الجماعات الضالة.
وإذا ما كان للحاكم المسلم رؤية تطبيقية شأنه فى ذلك شأن كل الأئمة المجتهدين , فهل ستتركه تلك الجماعات يعمل فى ظروف آمنة أم ستصطاد فى الماء العكر وتستخدم أخطاءه -إن وجدت- مثله مثل باقى البشر , أو تخلق له الأخطاء بالكذب وتستخدمها فى الخروج عليه و تحت لواء الدين كما يصورون أو يتصورون .
كل ذلك يراه المواطن العادي بفطرته السليمة و التى تأكدت من فساد مناهج تلك الجماعات و توجست منها , لذلك رضي الناس بالخضوع و الاستسلام لنظم مستبدة تتنقل بين المناهج و النظريات بحسب هواها , ارتضوا أن يحكموا بقوانين استثنائية كالطوارئ تخول للسلطة و ممثليها الحق فى فعل كل شيء , ويكون فعلهم هذا قانونيا وذلك لأن القانون صار هو الاستثناء !
و هكذا نرى أن أعداء تطبيق الإسلام فى الداخل يبررون موقفهم بفساد الجماعات وتعدد مناهجها و تضاربها .
و نرى أيضا أن المنادين بتطبيق الشريعة يحجمون عن إخراج ذلك النداء بسبب تلك الجماعات .
و هكذا يتبين لنا أن هذه الجماعات تمثل المانع الحقيقي و الوحيد أمام الجميع فى طريق تطبيق الشريعة و خروج الأمة مطالبة بحزم أمرها فى يدها , خوفا من أن يؤول الأمر لأحد هؤلاء, على الرغم من أن هذه الجماعات قامت فى الأصل يوم أن قامت لتطبيق الشريعة , أو على الأقل كان ذلك هو هدف المخلصين منهم .
هذا بالإضافة إلى المدعومين من الخارج و ما أدراك ما خطر هؤلاء إن تولى أحدهم الأمر .
كل ذلك بث الخضوع و اليأس و الخوف و الترقب دون فعل فى نفوس الناس و كأن الأمر لا يعنيهم , و لا هذا البلد بلدهم ولا تلك الحياة حياتهم , فصاروا كجسد يحتضر منذ سنين .
ولكن أين هى نقطة الانطلاق , وما هو المنهج الذى ينتهجه هذا الميت الحي ليعود إلى الحياة و يبلغ غايته ؟!!

ماهية المنهج السليم :

من البديهي أن تكون أولى خطوات البحث عن المنهج السليم الذى يستطيع إصلاح حالنا وإعادتنا إلى الحياة هى إلقاء نظرة سريعة على تاريخنا الحديث فى محاولة لتقييم المناهج و النظم التى حكمتنا , وإذا ما فعلنا ذلك لوجدنا أنه يمثل أسمى آيات التخبط و الضلال , فمن القومية إلى الاشتراكية إلى الرأسمالية و بقرارات لحظية لا يدرك متخذها عواقبها أو يدرك و يتغافل , ثم صرنا إلى حالة غريبة من التجمد منذ ما يزيد على الربع قرن , و فى كل تلك العهود و المناهج المختلفة فى الحكم , والتى ألهنا فيها حكامنا كنا نسير من سيء إلى أسوأ , و من نكبة إلى نكسة , اللهم إلا من بعض الانتصارات المحدودة الزائفة والتى ضخمتها لنا وسائل إعلامهم فرأيناهم أبطالا مخلصين , فاستمدوا من ذلك شرعية وجودهم فى السلطة , وذلك على الرغم من أن البطل الحقيقي فى كل تلك الانتصارات المحدودة كان هو الشعب رغم ضياعه .
و حالنا اليوم هو أبلغ دليل على سفه و فساد كل تلك المناهج التى طبقناها أو عدم صلاحيتها للتطبيق على الأقل فى بلادنا .


ولأن منهج الحكم السليم هو ذلك المنهج الذى يضمن تحقيق مصالح الأمة المشروعة العليا و الدنيا , القريبة و البعيدة , فان البحث فى تاريخ الأمم عامة و تاريخنا خاصة و دراسة المناهج و النظم التى استخدمت لإدارة البلاد , و قدرة كل منها على رفع مكانة أصحابه بين الأمم , و قدرة كل منها على الاستمرار و التكيف مع العصور والظروف المختلفة , و قدرة كل منها على التعامل مع الآخر وصد عدوانه إن اعتدى , لما وجدنا على ظهر الأرض عبر تاريخها أفضل ولا أسلم ولا أعظم ولا أعدل ولا أرقى من الإسلام , فأي منهج غيره استطاع أن يحول بعض القبائل المتناحرة المتقاتلة لصالح الفرس و الروم و التى يقوم اقتصادها على رعى الأغنام فى الصحراء إلى أقوى أمم الأرض بفارق مئات الخطوات عمن يليها , و فى خمسين عاما تقريبا سيطرت على الأرض من أقصاها إلى أقصاها , و لم تقف عند هذا الحد و إنما فاضت بعلومها و أخلاقياتها على من حولها من الأمم , و خرجت أوروبا بذلك من عصر الظلمات و بنت حضارتها على علوم المسلمين و رأى العالم انهيار القطبين الرئيسيين فى ذلك الزمان ...الفرس و الروم , وظهور الإسلام كقطب أوحد أقام ميزان العدل فى الأرض و أعطى كل ذى حق حقه , و ليس قطبا أوحد كالذى نراه فى عالم اليوم , ينشر الفساد والفتن فى الأرض , و يسرق موارد الناس و يعبث بمصائرهم تبعا لهواه .
ثم يقول لنا أن الطريق لإصلاح حالنا هو الفوضى الخلاقة , أي إحداث حالة من الفوضى تخرج فيها كل الاتجاهات و الأحزاب و الجماعات و اللصوص والمأجورين وهم عنصر أساسي لإحداث الفوضى , فيفعل كل منا ما يريد ووفق أي تصور , سواء كان ذلك بالقتل أو الاغتصاب أو غيره , وتكون نتيجة تلك الفوضى الخلاقة هى محصلة تضارب قوى الأمة و التى غالبا ما تكون صفرا لأن كلا منا قد أنهك الآخر أو أفناه , و نفاجأ بأن أمرنا قد ذهب لمأجورين هم فى الأصل أحقرنا وأرذلنا و أقذرنا ولكنهم مدعومون ممن نصحونا بالفوضى الخلاقة و مدربون على أيديهم .
هذا هو القطب الأوحد الحالي وهذا مسلكه معنا خاصة ومع الأمم عامة , فانظر إلى الفرق بينه و بين الإسلام حين كان قطبا أوحدا و تأثيرهما المتناقض على باقى الأرض من حولهما !

و تزكيتنا للإسلام و اعتبار أنه هو المنهج الأسلم و الأمثل لا يخرج من تحيز أعمى أو حمية حمقاء , و إنما يتولد من العقل المجرد إذا ما درس و قارن و حيد هواه وأخلص فى أحكامه , و هذا ما علمه أعداؤنا , بل وكان سببا أساسيا فى عدائهم لنا , ولن يهدأوا إلا بطمس معالم الدين فى صدورنا و عقولنا قبل كتبنا , و ذلك لأنهم علموا أنه بقدر ما نطبق من الإسلام بقدر ما نسود فى الأرض , و نحن مازال بعضنا يشكك فى تلك الحقيقة , و بعض آخر ينادى بفصل الإسلام كدين عن الدولة مدعيا عدم صلاحيته الزمنية وهما كل لا ينفصل , فلا يقوم الدين إلا بالدولة ولا تقوم لنا دولة إلا بإقامة الدين , و بعض آخر أشد ضلالا يرى أن سبب ضياعنا الأساسي هو هذا الدين , ويتذرع ذلك الصنف من الناس بفشل نظم الحكم الإسلامية كما حدث فى أفغانستان مثلا , و تكايد و تناحر كل الجماعات و المذاهب الإسلامية فيما بينها .
وللجادين غير الجاحدين من هؤلاء سنقوم بمناقشة أمر تلك الجماعات باستفاضة عقلا و نقلا حتى يتبين الحق جليا لا ينكره إلا كل جاحد مستكبر , حيث ظهر وبوضوح أنها تمثل مفتاح الباب المغلق بيننا و بين ما نريد من تطبيق للشريعة ,
فإما فتحنا الباب بهذا المفتاح بعد أن علم وظيفته كمفتاح يجب أن يكون فى يد غيره ليتحقق الفتح , وإما ظل هذا المفتاح متكبرا مغرورا لا يرضى أن يبقى فى يد تفتح به حتى يأتي أمر الله وحكمه فيظهر الحق ويخذل الباطل .

ولكن قبل مناقشة الجماعات لابد أن يثبت فى داخل كل منا حتمية تطبيق الإسلام كنظام حكم , وواجب كل مسلم فى السعي لذلك بعيدا عن النظرة التاريخية المقارنة للمناهج و ذكريات الماضى العريق , و بأسلوب منطقي لا يدع مجالا لمتشكك أو ثغرة لمكذب , و بعد ذلك يمكننا أن نتساءل عن كيفية التطبيق والموقف من الجماعات و الفرق المختلفة .
ولتوفير الوقت و الجهد علينا أن نوجه لأنفسنا بعض الأسئلة المباشرة والصريحة .
فبداية عليك أن تسأل نفسك ... هل تؤمن أن لهذا الكون الها خلقه و خلقك ؟!
إذا كانت إجابتك بلا فاذهب ولا تكمل فما تقرأه لا يخصك , وان كانت بنعم فأعد السؤال على نفسك و حاول إدراكه بشكل أوضح ..... هل لهذه الأرض رب ؟!
إذن فأنت تصر على الإجابة بنعم مؤكدا أنك تؤمن أن لهذه الأرض ربا خلقها وخلقك و ليس لديك شك فى ذلك.
حسنا ... وليكن سؤالنا الثانى هو هل تقر لربك الذى خلقك بحقه فى أمرك و نهيك كما يشاء ؟!
إذا كانت إجابتك بلا فاذهب ولا تكمل , فما تقرأه لا يخصك , وإن كانت بنعم فأعد السؤال على نفسك مرارا و تكرارا محاولا استخلاص الإجابة الحقيقية الكامنة فى داخلك , هل لربك الذى خلقك حق فى أمرك و نهيك كما يشاء ؟! ألا يساورك شك فى ذلك؟ ألا ترى فى نفسك ضيقا منه ؟ أمتأكد أنت ؟
إذن فأنت تصر على أنك تقر لخالقك بحقه فى أمرك و نهيك و واجبك فى الامتثال .
حسنا ... وليكن سؤالنا الأخير هو هل تؤمن أن ربك الذى خلقك و أمرك و نهاك سيميتك فى يوم لا محالة ثم يبعثك من جديد فى يوم يحاسبك فيه على مقدار التزامك بأوامره و نواهيه فى حياتك فيكافئك إن كنت قد أطعت ويعذبك إن كنت قد عصيت .
إذا كانت إجابتك بلا فاذهب ولا تكمل ...فما تقرأه لا يخصك , وإن كانت بنعم فأستحلفك بالله أن تتيقن من مشاعرك و مدى إيمانك بهذا الأمر , هل تؤمن حقا أنك بعد أن تموت ستحيا من جديد ؟! هل تصدق ذلك فعلا ؟! وليس ذلك فقط بل ستقف أمام ربك فيحاسبك على ما فعلت فى حياتك الأولى و يكون مصيرك فى نعيم الجنة أو فى عذاب النار ..... هل تؤمن فعلا بالجنة و النار ؟! أليس لديك شك فى هذا ؟! راجع نفسك !
حسنا ... إذن فقد وصلنا الآن إلى مسلمات تسلم بها وليس لديك أي شك فيها وهى كما يلى :
- أنك تؤمن أن لهذه الأرض ربا خلقها و خلقك .
- و أنك تقر بحق خالقك فى أمرك و نهيك و واجبك فى الامتثال .
- و أنك تؤمن أنه سيبعثك بعد موتك و يحاسبك على مدى التزامك بأوامره ونواهيه , فإما نعيم مقيم وإما عذاب أليم .
فاعلم يا من تدعى الإيمان أن للإيمان مقتضيات لا يكون إلا بها , و نواقض لا يكون فى وجودها , و تلك المقتضيات و النواقض محددة وواضحة و مستخرجة من كتاب ربك الذى أقررت منذ قليل بحقه فى أمرك و نهيك , وهى كثيرة و مترابطة و متفاوتة فى أهميتها و كلها مهم .
و لسنا هنا فى مقام حصرها و دراستها, لذلك سنعتمد على القليل الواضح و الكافى تماما للقيام بالغرض.
فإذا علمت أن ربك يقول مخاطبا رسوله صلى الله عليه و سلم (فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا ) *النساء 65*
و معنى هذه الآية الواضح لمن قرأها و سمعها مئات المرات دون أن يحاول إدراك معناها , أو أدرك و لكنه تغافل عن الأمر , أن الله عز و جل يقسم بنفسه سبحانه على أنه لا يؤمن أحد حتى يحكم الرسول صلى الله عليه و سلم فى جميع الأمور , وليس ذلك فقط بل ويرضى بذلك الحكم ولا يجد فى داخله أى ضيق أو مدافعة أو ممانعة تجاهه و يسلم له تسليما كليا , و المقصود بحكم الرسول هنا هو حكم الدين الذى أرسل به الرسول صلى الله عليه و سلم ليقوم بتطبيقه .
و إذا علمت أن ربك الذى خلقك يقول عن عدم تحكيم الشريعة :
(وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ). *المائدة 44*
(وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ). *المائدة 45*
(وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ). *المائدة 47*
و معنى الآيات واضح , و هو أن الذين يستخدمون مناهج أخرى فى الحكم غير المنهج الذى أنزله الله هم الكافرون الظالمون الفاسقون .
و من قال أن الذين يندرجون تحت هذه الآيات و حكمها هم الحكام الذين يحكمون بشكل فعلى , أما الشعوب فهى مغلوبة على أمرها وسيجزيها الله خيرا على صبرها نذكرهم بالأثر القائل : ( كيفما تكونوا يول عليكم ).
أي أن هؤلاء الحكام ما كانوا كذلك إلا لوجود شعب خلفهم يتصف بنفس صفاتهم , شعب لم يرد تحكيم شريعة الله فى حياته بسبب انبهاره بالحضارة الكاذبة التى اقترن فيها التقدم بالإباحية و الحرية الشخصية إلى حد الشذوذ .
و لأن هذا التقدم يعنى المزيد من الرخاء و المتعة فقد رأت شعوبنا أن الطريق الحتمي لذلك هو نموذج الحرية العلمانية , و هكذا خرج من تلك الشعوب حكام لهم نفس الرؤية , و لما تحقق الفشل الذريع كنتيجة طبيعية لتطبيق مناهجنا الفاسدة صرنا نبغضهم و يبغضوننا , و نلعنهم و يلعنوننا .
وإذا علمت أن الله ربك الذى تقول أنك تؤمن به يخاطب المؤمنين آمرا إياهم بقوله تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) . *النساء 59*
و طاعة الله و الرسول و أولى الأمر تكون بتحكيم شريعة الله و تنفيذ أحكامه و إقامة حدوده, و رد كل ما نتنازع فيه إلى كتاب الله و سنة رسوله ليحكم بيننا , هذا إن كنا نؤمن بالله و اليوم الآخر كما تقول الآية , و تختتم الآية بترغيبنا فى فعل ذلك مشيرة إلى أن عاقبة و نتيجة التطبيق هي الأفضل و الأحسن .
و يستنكر رب العالمين اتجاه إرادة بعض الناس إلى استخدام مناهج أخرى فى الحكم غير المنهج الذى أنزله فى قوله تعالى (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ). *المائدة 50*
واعلم أن ربك الذى خلقك قد سمى كل معبود يعبد فى الأرض سواه و كل من يقدم للناس شريعة يتحاكمون إليها غير شريعة الله أو يحكم بها , و كل من يخذل الناس عن تحكيم شريعة الله , كل هؤلاء أطلق عليهم ربك اسما واحدا ... وهو الطاغوت , فانظر ماذا قال ربك فى الطاغوت علك توقن و تنيب إليه , فمثلا قال تعالى : (ألَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيدًا). *النساء 60*
و فى هذه الآية يلفت الله نظرنا إلى أناس يزعمون أنهم قد آمنوا بما أنزل على رسولنا محمد صلى الله عليه و سلم , و ليس ذلك فقط بل و يؤمنون كما يزعمون بما أنزل على الرسل من قبله , ورغم ذلك فإنهم لا يتحاكمون إلى ما يؤمنون به كما يقولون , بل تتجه إرادتهم و أفعالهم إلى تحكيم الطاغوت فى أمور حياتهم , والطاغوت هنا هو كل التشريعات و القوانين الوضعية البشرية المغايرة لشرع الله , أوليس ذلك هو حالنا تماما بعد أن رضينا بحكم الطواغيت و حصرنا الإسلام كما يريدون فى بعض العبادات التى لا نقوم بها على الوجه الصحيح أيضا , فصار الإسلام أسيرا مسلسلا فى المسجد ,أما خارج المسجد فلا حديث فى الدين , ومن يتحدث فى الدين و أصوله ووجوب تطبيقه فهو خارج على القانون كما يقولون , إذن فالمطلوب منا و هو واضح تماما أن نخرج على قانون خالق كل شيء لكي لا نخرج على قانون وضعي , وضعه بشر مثلنا يخطئ و يصيب , و هو فى ذلك مخطئ إلى أبعد الحدود , حيث تجرأ على أن يضع للناس دستورا لحياتهم يحارب به دستور رب العالمين , بل ووضع العقوبات الرادعة لمن لم ينفذ , و لكل من ثار غضبا لدستور ربه .