الاثنين، نوفمبر ٢٧، ٢٠٠٦

ثورة الإخلاص



ثورة الإخلاص

تأسيسا على ما سبق تظهر حتمية تحركنا كأمة و بأقصى سرعة ممكنة فى اتجاه إصلاح أمرنا و الخروج من هذه الحالة المذرية التى وصلنا إليها إلى حال أفضل , وهو ما يسمى فى عرف الشعوب بالثورة .
ولابد للثورة من استيفاء بعض العناصر اللازمة لتحققها , كلها متوفرة و بقوة فى مجتمعنا إلا واحدة .
فلابد للثورة من وجود حالة ثورية سائدة و رغبة شعبية حقيقية للتغيير ولدها الإحساس بالظلم و الشقاء و الحرمان و اليقين من فساد النظام الذى تدار به حياتهم , ولا شك فى وجود هذا العنصر وبأضعاف ما قد يحتاجه الأمر .
ولابد لكل ثورة من مقدمات و أسباب و مجموعة من الأحداث تؤدى إليها و تستدعيها ولا شك فى توفر هذا العنصر وبشكل ضاغط بل ومستفز .
ولابد للثورة من وجود نخبة تؤمن بضرورتها و يمكنها أن تدعو لها وتدافع عنها وهى متوفرة بلا أدنى شك .
و أخيرا فلابد للثورة من فكرة قائدة و ملهمة للحالة الثورية تكون قائمة على الحق ويمكنها تحويل الأهداف الكبرى إلى مبادئ عمل واجتذاب الناس حولها , وهذا العنصر هو ما نفتقده حقيقة على الرغم من أهميته .
وغياب أي من هذه العناصر عن أي حركة ينفى عنها صفة الثورية و يبقيها متأرجحة بين الانقلاب أو التمرد المارق .
وتمثل حالتنا والتى تغيب فيها الفكرة القائدة رغم اكتمال باقى العناصر اللازمة للثورة أخطر الحالات , ففى ظل وجود هذه الحالة الثورية بدون الفكرة القائدة لها تنشط بؤر الاضطراب و مراكز القوى الداخلية و الخارجية , الفكرية و العقائدية , وتسعى إلى أن تسبق إلى استغلال تلك الحالة الثورية و احتوائها وجرها إلى مرادها ,وهنا مكمن الخطر وسبب فشل الثورة الذى تحمله بين جنباتها قبل بدايتها ,حيث تختزل الثورة فى شخص البطل المنقذ الذى استطاع أن يسيطر عليها , وتصبح مبادئها قبسا من بقايا إبداعاته , وتتحول إنجازاتها إن حدثت إلى فيض من كراماته , فتغلب عليه شهوات الحكم و ملذاته ويتأله فى ذاته , حتى تأتينا القاصمة التى لم يحسب لها حساب فتكسر ظهرنا قبل ظهره و تنحر أحلامنا قبل نحره , وتؤجل أي حركة تصحيح جديدة لعشرات السنين .
وهذا هو ما حدث بشكل أو بآخر فى كل ثورات مصر عبر التاريخ وأدى بنا إلى هذه الحالة التى نعيشها , فكل ثوراتنا كانت ثورات غير مكتملة لافتقادها أحد العناصر الأساسية اللازمة لنجاحها , و بعيدا عن العواطف و ذاكرتنا السينمائية و بالاحتكام إلى العقل يمكننا أن نطلق عليها جميعا صفة الفاشلة .
فبداية بالثورة العرابية والتى انتهت بنفي قائدها أحمد عرابى وتركت الوضع أسوأ مما كان عليه , مرورا بثورة 19 التى انتهت بالتحفظات الأربعة والتى تضمن بقاء المحتل الإنجليزي و بدستور 23 الذى يعطى كل السلطات للملك والذى وصفه سعد زغلول نفسه بأنه دستور الأشقياء , وكلنا يذكر كلمته التى لخص فيها تجربته (مافيش فايدة) كدليل على فشل تلك التجربة وباعتراف صاحبها .
ثم بالوصول إلى ثورة يوليو 52 وزعيمها الرئيس جمال عبد الناصر , وهى تمثل التجربة الأكبر و الأفضل فى تاريخنا الحديث لوجدنا أنها و برغم إنجازاتها المتعددة واحدة من تجاربنا الفاشلة .
وإذا ما حاولنا تقييم زعيمها الرئيس جمال عبد الناصر لرفعناه إلى درجة الخلفاء الراشدين فى بعض أفعاله ووضعناه فى درجة الحجاج بن يوسف الثقفي فى البعض الآخر , وما كان ذلك إلا بسبب اختزال الشرعية و منهج الحكم فى شخص عبد الناصر , وما وصل إلى تلك المنزلة التى لا يجب أن يصل إليها إنسان فى قومه إلا بعد أن استغل هو و رفاقه من الضباط الحالة الثورية السائدة فى ذلك التوقيت و سخط الشعب على الملك وسفهه و حاشيته و نظام حكمه و مجموعة الأحداث التى قدمت للثورة كهزيمة حرب فلسطين و حريق القاهرة وغيرها من أحداث فى ظل غياب فكرة قائدة تجمع الناس تحت لوائها .
وعندما قام هؤلاء الضباط بحركتهم لم يكونوا يقصدون الاستيلاء على الحكم أو عزل الملك , ولم يكن لديهم فى الأصل نظرية يثورون من أجل تطبيقها لأن انتماءاتهم الفكرية كانت مختلفة و متباينة إلى حد بعيد , وإنما كانوا يقصدون تطهير الجيش وعزل القيادات الفاسدة به من خلال السيطرة على مقر قيادته وبعض وحداته , ولكن الأمر تطور إلى فوق ما كانوا يحلمون بمراحل , وفوجئوا بتأييد شعبي يمنح الشرعية لحركتهم , ويضعهم كأشخاص فى محل الفكرة القائدة الغائبة , فصارت طبائعهم قانونا , وأحلامهم واجبا قوميا , و زلاتهم مهما بلغت مستحقة للمغفرة و دون نقاش .
ونحن إذ نحيا فى هذه الأيام ظروفا تتشابه إلى حد بعيد مع تلك التى كانت سائدة قبل ثورة يوليو مباشرة إن لم تكن أشد حدة و مرارة , وإذ تتوفر فى مجتمعنا نفس الحالة الثورية التى سبقت ثورة يوليو وبشكل أكثر عمقا و نضوجا , وإذ تنقصنا الفكرة القائدة الملهمة التى تلتف حولها تلك الحالة الثورية تماما كما كان الحال قبل ثورة يوليو , فإنه يكون من المنطقي أن نتوقع أن يخرج علينا ومن أي اتجاه أناس يختطفون هذه الحالة الثورية وينجحون فى احتوائها و تطويعها بحسب مصالحهم وفرض أفكارهم و أهوائهم كدستور لها , فيصيرون آلهة جديدة صنعناها بأيدينا لتعذبنا لعشرات السنين .
ولتجنب الوصول إلى مثل تلك النتيجة المفزعة يجب علينا فردا فردا بحكم ما لنا جميعا من مصلحة فى هذا البلد أن نتحرك جاهدين و بطاقاتنا القصوى للوصول إلى تلك الفكرة القائدة التى يمكنها أن تجمعنا و تسيطر على تحركاتنا و تضع لنا المبادئ و أسس العمل التى تكفل نجاح التجربة .
وإذا ما نجحنا فى الوصول إلى تلك الصيغة نكون قد نجحنا بالفعل ويصبح كل ما بعد ذلك فى حكم تحصيل حاصل , ولا يعنينا ساعتها من يتولى الأمر ومن يجلس على هذا الكرسي أو ذاك لأنه سيكون مرغما على انتهاج النظام الذى اتفقنا عليه وارتضيناه لحكم أنفسنا والذى يستمد منه شرعية وجوده على كرسيه , فنكون بذلك قد تخلصنا من عقدة البطل الخارق الذى لا يسأل عما يفعل بعد أن حزمنا أمرنا بأنفسنا دون فضل لأحد .
وهنا قد يبدو الأمر للبعض وكأنه درب من دروب المستحيل وذلك لقناعتنا وإيماننا الداخلي بأننا لا نستطيع أن نجتمع ولا يمكننا أن نتفق سواء كدول على المستويين العربي و الإسلامي أو كجماعات وأحزاب على المستوى الداخلي .
ولكن الأمر فى حقيقته أبسط من ذلك بكثير , فلا شك فى أن هذه الأرض لم تخل من الشرفاء و المخلصين بعد , وأنهم أكثرية فى هذا البلد وان كانوا أكثرية مبعثرة غير فاعلة أو فاعلة ولكن فى غير الاتجاه الصحيح , والإنسان الشريف المخلص فى طبيعته يبحث دائما عن الحق ويتبعه حيثما وجده , فالإخلاص لا يكون إلا لحق , وعلى الرغم من أن الحق واحد غير متعدد إلا أنه يتعدد فى عقولنا بحسب تجاربنا وعذاباتنا و مقدار و اتجاه علومنا , وبذلك يستأسد فى عقل كل منا نموذجا للحق يجب الإخلاص له , وطريقا للإصلاح لا يحيد عنه , ويروح يدعو الناس إليه , وقد يقاتل عليه , وفيما بعد ... بعد تحصيل المزيد من التجارب و العلم , و الترقى درجة فى الفهم , يراجع ذلك الشريف نفسه فيرى خطأ ما كان عليه كليا أو جزئيا , فيصحح مساره تبعا لرؤيته الجديدة للحق الواجب الإخلاص له .
ولأننا لا نمر بتجارب متطابقة ولاختلاف قدراتنا و طبيعاتنا ومستوى علومنا فإننا نبقى على خلاف دائم , وينظر كل منا للآخر على أنه خائن أو فاسد أو مغرض , وذلك لأنه لا يتخيل وطبقا لنظرته الخاصة للحق أن هذا أو ذاك قد يكون مخلصا فيما يقول أو يفعل لأنه لا يتصور أن العقل المخلص للحق قد يصل إلى هذه النتائج الفاسدة .
ثم وبعد فترة يتطور كل منا فى ذاته حتى نتبادل أحيانا الأدوار والمعتقدات والولاءات فيقاتل كل منا ما كان يدعو إليه بالأمس , وهكذا نظل أعداء , ويظل تفاعلنا تفاعلا سلبيا , وتظل هذه الأرض أسيرة لتخبطنا وضياعنا رغم إخلاص أغلبنا .
من هنا يظهر أنه لا توجد إمكانية للحل إلا باجتماع المخلصين و الشرفاء من أبناء هذه البلاد , ولا يمكن تحقيق ذلك إلا بإيجاد صيغة مرنة للحق الثابت يمكنها أن تجمعهم جميعا تحت لوائها وتمثل فى أعينهم عين الحق فى هذا الزمان فلا يستطيعون ردها , ومن غير الممكن أن نصل إلى هذه الصيغة بدون فهم الرؤى الرئيسية لهؤلاء المخلصين و أساليب بحثهم عن الحق وطبيعته فى عقولهم .
فمنا من يرى الحق وطريق الخلاص فى تطبيق الشريعة الإسلامية كما فهمها , ومنا من يراه فى تنفيذ إرادة الأمة أيا ما كانت , ومنا من يراه فى نسف كل ما مضى والاعتماد على العقل المجرد فى تحديد المصلحة و اتباعها حيث كانت .
ولو نجحت تلك الصيغة التى ننشدها فى احتواء رؤى هؤلاء جميعا و اعتمادها لضمنت وبلا أدنى شك تحصيل ولائهم و دعمهم جميعا , وذلك لأنهم فى الأصل مخلصون , ويعلم كل منهم فى داخله أن هناك ضرورة قصوى و أولوية عاجلة لتحقيق وحدة الصف و الهدف , فإذا وجد الفكرة أو النظام الذى يستفيد من رؤيته ويفعلها و يحقق أهدافها و يستغل قوته و إخلاصه وفى ذات الوقت يجمعه بباقى قوى الأمة أفرادا و جماعات فى بنيان واحد وتحت لواء واحد ونحو هدف واحد فان ذلك بلا ريب يمثل تحقق أسمى و أغلى أحلام عمره إن كان مخلصا بحق .
وعلى ذلك فلإيجاد تلك الفكرة التى تقود ثورتنا و توحد جماعتنا علينا أن نبحث عن الحق مجتمعين من خلال ثلاثة محاور رئيسية قد تبدو للبعض متوازية لا تتقاطع ونراها عكس ذلك , بغية الوصول إلى نقطة تقاطعها التى تمثل اجتماع هذه المحاور والتى تعبر فى النهاية عن تلاقى الرؤى الأساسية السائدة فى المجتمع و المصادر المانحة للشرعية لأي عقد اجتماعي به , وهذه المحاور الرئيسية هي :
- الشريعة الإسلامية كمصدر تشريعي لا يمكن إغفاله .
- اتجاه الإرادة الجمعية للأمة على اعتبار أنها مصدر السلطة .
- ماهية المنهج السليم من خلال العقل المجرد الباحث عن المصلحة .

وإذا نجحنا فى الوصول إلى تلك الرؤية التى تجمع رؤانا جميعا تحت لوائها وتمكننا من صياغة عقد اجتماعي جديد يحظى بتأييد كافة المصادر المانحة للشرعية فى المجتمع نكون قد قطعنا أكثر من نصف الطريق فى محاولة إعادة مصر إلى حاضر الأرض و مستقبلها بخطوة واحدة , ولو عادت مصر لعاد العرب , ولو عاد العرب لعاد المسلمون , ولو عاد المسلمون فما من قوة على وجه الأرض يمكنها أن تنازعهم زعامتها , وإذا لحكم العدل وساد بعد حكم طويل للفساد ممثلا فى قطبه الأوحد .
والأمل كل الأمل يبقى فى المخلصين من أبناء هذه الأرض الطيبة , الذين آن لهم أن يجتمعوا لنصرتها , وآن لها أن تستريح من ظلم أعدائها وخيانة أبنائها بعد أن تجرعت وتجرعنا معها المر والذل والعذاب و الهوان أصنافا و ألوانا .


وإذا ما تم استجماع أجزاء الصورة لوجدنا أننا أمام مشكلة شرعية حكم واضحة وصريحة , وتلك المشكلة ليست مشكلة نظام حاكم وإنما مشكلة نظام حكم , مشكلة منهج و تشريع يسمح و يمنع و يثيب و يعاقب و يعطى الشرعية للنظام الحاكم تماما كما تعطيها إرادة الشعوب و الأمم .
ولا يكون النظام الحاكم شرعيا إلا إذا جمع بين هذين الأمرين , الخروج من الإرادة الجمعية للأمة والعمل فى ظل تشريع و منهج سليم .
و هذا هو لب الأمر , علينا أن نبحث فى اتجاهين أساسيين , أولهما هو ماهية ذلك المنهج السليم الذي يضمن انتشالنا من هذا المستنقع الذى قذفنا بأنفسنا فيه و ينزع عنا وساخاتنا و يسمح لنا أن نحلم ببلوغ مكانة متقدمة بين الأمم و يحقق لنا لذلك .
و ثانيهما هو اتجاه الإرادة الجمعية لهذه الأمة الصامتة , و أي مناهج الحكم تريد ؟!

لذلك وجب على كل عاقل قبل أن يخرج مناديا بسقوط الأنظمة أن يفكر فى ماهية النظام الجديد , قبل أن ينادى بالإصلاح أن يحدد معالم الصورة الصالحة التى يريدها لوطنه و التى خرج من أجلها .
لا أن نخرج كجماعات وأحزاب و مذاهب دينية و سياسية و فلسفية وغيرها , لم تجتمع مطلقا على شيء و اجتمعت الآن منادية بسقوط النظام , و يقال لنا أن هذا هو خير تمثيل لوحدة الأمة و اجتماع كل أطيافها على مطلب واحد وهو الإصلاح , وذلك على الرغم من أن لكل منهم منهجه و نظرته للإصلاح , والتى لا تتشابه من قريب أو بعيد مع رؤية أى فرقة أخرى سواء كانت دينية أو سياسية , فللإسلاميين والحزبيين عشرات الرؤى المتنافرة المتناحرة , و لو تمكن أحدهم من السلطة لنكل بالباقين ... كل الباقين , و لقاتله هؤلاء الباقون كما يفعلون الآن جميعا مع النظام .
وإذا نظرنا لوزن هذه الأحزاب والجماعات فى المجتمع لوجدنا أنها لا تساوى شيئا , فهى لا تمثل أى توجه حقيقى بالشارع , ليس ذلك فقط, بل إن أغلبها إن لم تكن جميعها مذمومة و مكروهة و غير ذات قيمة عند المواطن العادى, و الذى ينظر إليهم جميعا على أنهم مجرد طلاب سلطة , سيذيقونه ووطنه أصنافا جديدة و مبتكرة من الضياع و الفشل و العذاب و الهوان .

4 Comments:

At ١١/٢٨/٢٠٠٦ ٢:١٠ ص, Blogger الديب said...

أخي الكريم ..
السلام عليكم

طرح جميل ..
ارجو ان تقرأ هذه التدوينة

http://eldeebs.blogspot.com/2006/11/blog-post_27.html

السلام عليكم

 
At ٩/٢٥/٢٠١١ ٢:٣٦ م, Anonymous نادي حواء said...

شكرا علي المجهود

 
At ١١/٠٦/٢٠١٢ ١٢:٥٤ م, Anonymous العاب فلاش said...

nice blog

 
At ١٢/١١/٢٠١٢ ٥:٢٧ م, Anonymous سيارات said...

يعطيك العافية

 

إرسال تعليق

<< Home