الاثنين، نوفمبر ٢٧، ٢٠٠٦

الاهداء و المقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم
والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم المرسلين وعلى آله وصحبه وسلم

إهداء

إلى كل مسلم يدعى الإخلاص لدينه والعمل على نصرته
إلى كل وطني يدعى الإخلاص لوطنه والعمل على رفعته
إلى كل عاقل يدعى الإخلاص لمصالحه والعمل على رعايتها

بسم الله الرحمن الرحيم

المقدمة

اختصارا للوقت .....
فمن غير المتصور أن يكون على هذه الأرض من لا يدرك أنها تحيا كارثة حقيقية , وتتعرض لمخاطر رهيبة قادرة على الفتك بها إن لم تكن لنا وقفة مع النفس.
وسواء كنا ننظر للأرض من منطلق وطني فنحصرها فى مصر , أو من منطلق قومي فنعني بها وطننا العربي , أو من منطلق ديني فتمتد بنا إلى الدول الإسلامية , فالمصاب واحد والخطر واحد والكارثة واحدة وان كانت مظاهرها تختلف .
لذلك فقد سيطرت على تفاعلنا كأمة مفردة واحدة وهى الإصلاح , وصار هدفنا الأسمى هو الوصول إلى عقد اجتماعي جديد يمكننا من تحقيق ذلك الإصلاح .
ولو خيرنا جميعا وفتح لنا باب الحلم على مصراعيه أيا ما كانت انتماءاتنا ومرجعياتنا سواء كنا وطنيين أو قوميين أو إسلاميين أو يساريين أو ليبراليين , لاخترنا أن نكون جزء من تكتل أكبر يحمينا وندعمه فى عالم تكتل فيه الجميع حتى اللصوص والشواذ.

وإذا ما وضعنا فى الاعتبار معطيات الواقع الثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية مع الالتفات لأهمية عنصر الوقت لوجدنا أن طريقنا الوحيد هو تكتل عربي حقيقي .
والعرب أمة صعبة المراس , فان سقطوا كان من العسير استنهاضهم , فإذا نهضوا استحال إسقاطهم بغير إرادتهم .
ولاستنهاض أمة العرب لابد أولا من استنهاض أحد أعمدتها الثلاثة الرئيسية والمتمثلة فى جزيرة العرب والشام ومصر , وذلك بأن يقدم أحدهم نموذجا إصلاحيا كفءا وفعالا بمقاييس عالم اليوم يستطيع أن ينهض بأهله ويحافظ على حقوقهم ومقدراتهم ويضمن لهم مكانا متقدما بين أمم الأرض , فان حدث ذلك فقد تم الأمر .

ومصر هى الدولة الأكفأ والأكثر تأهيلا لقيادة زمام النهضة فى أمتنا العربية , والأقدر على تقديم نموذج إصلاحي حقيقي تلتف حوله الأمة وتعود به إلى العالم فاعلة لا مفعولا بها .
وذلك لعدة أسباب واقعية وحقائق على الأرض وفوق صفحة التاريخ تثبت بما لا يدع مجالا للشك واجب مصر فى حمل هذه الأمانة , وحق العرب علينا فى أن نقدم لهم نموذجا إصلاحيا حقيقيا يكون لهم كطوق النجاة فى زمن صارت فيه الأمة كدمية تتلاقفها العروش وتدوسها الجيوش , وعالم تتلاطم فيه المناهج والتطبيقات بحسب الأهواء والمصالح .
وتتعدد الأسباب التى تدفع بمصر إلى تلك المكانة وتحملها بذلك الواجب , فمنها ما هو داخلي ويتعلق بشخصية مصر وحقائق الواقع المصري فى مختلف مجالاته , ومنها ما هو خارجي ويتعلق بموازين القوى وحقائق الواقع العربي , ومنها ما هو تاريخي ونحتفظ به جميعا فى ذاكرتنا الجمعية .

فإن نجحنا كمصريين فى صياغة عقد اجتماعي جديد , والتوحد خلف رؤية إصلاحية واحدة , فقد نجونا بأنفسنا من هلاك محقق ووضعنا أقدامنا أخيرا على الطريق الصحيح , وقمنا بواجبنا تجاه إخواننا ويبقى عليهم القيام بواجباتهم تجاه أنفسهم .

لذلك فنهضة مصر هى مجال بحثنا هذا , بغية الوصول إلى تحديد الملامح الرئيسية لذلك العقد الاجتماعي المنتظر الذى يستطيع توحيدنا وإعادتنا إلى الحياة .
ولا نستطيع بلوغ هذه الغاية إلا ببحث مخلص , نحيد فيه أهواءنا ونتناسى مصالحنا الخاصة , ونعتمد فيه على الحسابات الدقيقة للعقل والمنطق لضمان الوصول إلى النتيجة الصحيحة .
وإلا بقينا على حالنا , تمزقنا مخالب القهر والفقر والظلم , وتتخطفنا العبارات والقطارات والطائرات فرادى وجماعات , بعد أن صار النظام هو الخلل والحقيقة عين الدجل والقانون هو الاستثناء .

ثورة الإخلاص



ثورة الإخلاص

تأسيسا على ما سبق تظهر حتمية تحركنا كأمة و بأقصى سرعة ممكنة فى اتجاه إصلاح أمرنا و الخروج من هذه الحالة المذرية التى وصلنا إليها إلى حال أفضل , وهو ما يسمى فى عرف الشعوب بالثورة .
ولابد للثورة من استيفاء بعض العناصر اللازمة لتحققها , كلها متوفرة و بقوة فى مجتمعنا إلا واحدة .
فلابد للثورة من وجود حالة ثورية سائدة و رغبة شعبية حقيقية للتغيير ولدها الإحساس بالظلم و الشقاء و الحرمان و اليقين من فساد النظام الذى تدار به حياتهم , ولا شك فى وجود هذا العنصر وبأضعاف ما قد يحتاجه الأمر .
ولابد لكل ثورة من مقدمات و أسباب و مجموعة من الأحداث تؤدى إليها و تستدعيها ولا شك فى توفر هذا العنصر وبشكل ضاغط بل ومستفز .
ولابد للثورة من وجود نخبة تؤمن بضرورتها و يمكنها أن تدعو لها وتدافع عنها وهى متوفرة بلا أدنى شك .
و أخيرا فلابد للثورة من فكرة قائدة و ملهمة للحالة الثورية تكون قائمة على الحق ويمكنها تحويل الأهداف الكبرى إلى مبادئ عمل واجتذاب الناس حولها , وهذا العنصر هو ما نفتقده حقيقة على الرغم من أهميته .
وغياب أي من هذه العناصر عن أي حركة ينفى عنها صفة الثورية و يبقيها متأرجحة بين الانقلاب أو التمرد المارق .
وتمثل حالتنا والتى تغيب فيها الفكرة القائدة رغم اكتمال باقى العناصر اللازمة للثورة أخطر الحالات , ففى ظل وجود هذه الحالة الثورية بدون الفكرة القائدة لها تنشط بؤر الاضطراب و مراكز القوى الداخلية و الخارجية , الفكرية و العقائدية , وتسعى إلى أن تسبق إلى استغلال تلك الحالة الثورية و احتوائها وجرها إلى مرادها ,وهنا مكمن الخطر وسبب فشل الثورة الذى تحمله بين جنباتها قبل بدايتها ,حيث تختزل الثورة فى شخص البطل المنقذ الذى استطاع أن يسيطر عليها , وتصبح مبادئها قبسا من بقايا إبداعاته , وتتحول إنجازاتها إن حدثت إلى فيض من كراماته , فتغلب عليه شهوات الحكم و ملذاته ويتأله فى ذاته , حتى تأتينا القاصمة التى لم يحسب لها حساب فتكسر ظهرنا قبل ظهره و تنحر أحلامنا قبل نحره , وتؤجل أي حركة تصحيح جديدة لعشرات السنين .
وهذا هو ما حدث بشكل أو بآخر فى كل ثورات مصر عبر التاريخ وأدى بنا إلى هذه الحالة التى نعيشها , فكل ثوراتنا كانت ثورات غير مكتملة لافتقادها أحد العناصر الأساسية اللازمة لنجاحها , و بعيدا عن العواطف و ذاكرتنا السينمائية و بالاحتكام إلى العقل يمكننا أن نطلق عليها جميعا صفة الفاشلة .
فبداية بالثورة العرابية والتى انتهت بنفي قائدها أحمد عرابى وتركت الوضع أسوأ مما كان عليه , مرورا بثورة 19 التى انتهت بالتحفظات الأربعة والتى تضمن بقاء المحتل الإنجليزي و بدستور 23 الذى يعطى كل السلطات للملك والذى وصفه سعد زغلول نفسه بأنه دستور الأشقياء , وكلنا يذكر كلمته التى لخص فيها تجربته (مافيش فايدة) كدليل على فشل تلك التجربة وباعتراف صاحبها .
ثم بالوصول إلى ثورة يوليو 52 وزعيمها الرئيس جمال عبد الناصر , وهى تمثل التجربة الأكبر و الأفضل فى تاريخنا الحديث لوجدنا أنها و برغم إنجازاتها المتعددة واحدة من تجاربنا الفاشلة .
وإذا ما حاولنا تقييم زعيمها الرئيس جمال عبد الناصر لرفعناه إلى درجة الخلفاء الراشدين فى بعض أفعاله ووضعناه فى درجة الحجاج بن يوسف الثقفي فى البعض الآخر , وما كان ذلك إلا بسبب اختزال الشرعية و منهج الحكم فى شخص عبد الناصر , وما وصل إلى تلك المنزلة التى لا يجب أن يصل إليها إنسان فى قومه إلا بعد أن استغل هو و رفاقه من الضباط الحالة الثورية السائدة فى ذلك التوقيت و سخط الشعب على الملك وسفهه و حاشيته و نظام حكمه و مجموعة الأحداث التى قدمت للثورة كهزيمة حرب فلسطين و حريق القاهرة وغيرها من أحداث فى ظل غياب فكرة قائدة تجمع الناس تحت لوائها .
وعندما قام هؤلاء الضباط بحركتهم لم يكونوا يقصدون الاستيلاء على الحكم أو عزل الملك , ولم يكن لديهم فى الأصل نظرية يثورون من أجل تطبيقها لأن انتماءاتهم الفكرية كانت مختلفة و متباينة إلى حد بعيد , وإنما كانوا يقصدون تطهير الجيش وعزل القيادات الفاسدة به من خلال السيطرة على مقر قيادته وبعض وحداته , ولكن الأمر تطور إلى فوق ما كانوا يحلمون بمراحل , وفوجئوا بتأييد شعبي يمنح الشرعية لحركتهم , ويضعهم كأشخاص فى محل الفكرة القائدة الغائبة , فصارت طبائعهم قانونا , وأحلامهم واجبا قوميا , و زلاتهم مهما بلغت مستحقة للمغفرة و دون نقاش .
ونحن إذ نحيا فى هذه الأيام ظروفا تتشابه إلى حد بعيد مع تلك التى كانت سائدة قبل ثورة يوليو مباشرة إن لم تكن أشد حدة و مرارة , وإذ تتوفر فى مجتمعنا نفس الحالة الثورية التى سبقت ثورة يوليو وبشكل أكثر عمقا و نضوجا , وإذ تنقصنا الفكرة القائدة الملهمة التى تلتف حولها تلك الحالة الثورية تماما كما كان الحال قبل ثورة يوليو , فإنه يكون من المنطقي أن نتوقع أن يخرج علينا ومن أي اتجاه أناس يختطفون هذه الحالة الثورية وينجحون فى احتوائها و تطويعها بحسب مصالحهم وفرض أفكارهم و أهوائهم كدستور لها , فيصيرون آلهة جديدة صنعناها بأيدينا لتعذبنا لعشرات السنين .
ولتجنب الوصول إلى مثل تلك النتيجة المفزعة يجب علينا فردا فردا بحكم ما لنا جميعا من مصلحة فى هذا البلد أن نتحرك جاهدين و بطاقاتنا القصوى للوصول إلى تلك الفكرة القائدة التى يمكنها أن تجمعنا و تسيطر على تحركاتنا و تضع لنا المبادئ و أسس العمل التى تكفل نجاح التجربة .
وإذا ما نجحنا فى الوصول إلى تلك الصيغة نكون قد نجحنا بالفعل ويصبح كل ما بعد ذلك فى حكم تحصيل حاصل , ولا يعنينا ساعتها من يتولى الأمر ومن يجلس على هذا الكرسي أو ذاك لأنه سيكون مرغما على انتهاج النظام الذى اتفقنا عليه وارتضيناه لحكم أنفسنا والذى يستمد منه شرعية وجوده على كرسيه , فنكون بذلك قد تخلصنا من عقدة البطل الخارق الذى لا يسأل عما يفعل بعد أن حزمنا أمرنا بأنفسنا دون فضل لأحد .
وهنا قد يبدو الأمر للبعض وكأنه درب من دروب المستحيل وذلك لقناعتنا وإيماننا الداخلي بأننا لا نستطيع أن نجتمع ولا يمكننا أن نتفق سواء كدول على المستويين العربي و الإسلامي أو كجماعات وأحزاب على المستوى الداخلي .
ولكن الأمر فى حقيقته أبسط من ذلك بكثير , فلا شك فى أن هذه الأرض لم تخل من الشرفاء و المخلصين بعد , وأنهم أكثرية فى هذا البلد وان كانوا أكثرية مبعثرة غير فاعلة أو فاعلة ولكن فى غير الاتجاه الصحيح , والإنسان الشريف المخلص فى طبيعته يبحث دائما عن الحق ويتبعه حيثما وجده , فالإخلاص لا يكون إلا لحق , وعلى الرغم من أن الحق واحد غير متعدد إلا أنه يتعدد فى عقولنا بحسب تجاربنا وعذاباتنا و مقدار و اتجاه علومنا , وبذلك يستأسد فى عقل كل منا نموذجا للحق يجب الإخلاص له , وطريقا للإصلاح لا يحيد عنه , ويروح يدعو الناس إليه , وقد يقاتل عليه , وفيما بعد ... بعد تحصيل المزيد من التجارب و العلم , و الترقى درجة فى الفهم , يراجع ذلك الشريف نفسه فيرى خطأ ما كان عليه كليا أو جزئيا , فيصحح مساره تبعا لرؤيته الجديدة للحق الواجب الإخلاص له .
ولأننا لا نمر بتجارب متطابقة ولاختلاف قدراتنا و طبيعاتنا ومستوى علومنا فإننا نبقى على خلاف دائم , وينظر كل منا للآخر على أنه خائن أو فاسد أو مغرض , وذلك لأنه لا يتخيل وطبقا لنظرته الخاصة للحق أن هذا أو ذاك قد يكون مخلصا فيما يقول أو يفعل لأنه لا يتصور أن العقل المخلص للحق قد يصل إلى هذه النتائج الفاسدة .
ثم وبعد فترة يتطور كل منا فى ذاته حتى نتبادل أحيانا الأدوار والمعتقدات والولاءات فيقاتل كل منا ما كان يدعو إليه بالأمس , وهكذا نظل أعداء , ويظل تفاعلنا تفاعلا سلبيا , وتظل هذه الأرض أسيرة لتخبطنا وضياعنا رغم إخلاص أغلبنا .
من هنا يظهر أنه لا توجد إمكانية للحل إلا باجتماع المخلصين و الشرفاء من أبناء هذه البلاد , ولا يمكن تحقيق ذلك إلا بإيجاد صيغة مرنة للحق الثابت يمكنها أن تجمعهم جميعا تحت لوائها وتمثل فى أعينهم عين الحق فى هذا الزمان فلا يستطيعون ردها , ومن غير الممكن أن نصل إلى هذه الصيغة بدون فهم الرؤى الرئيسية لهؤلاء المخلصين و أساليب بحثهم عن الحق وطبيعته فى عقولهم .
فمنا من يرى الحق وطريق الخلاص فى تطبيق الشريعة الإسلامية كما فهمها , ومنا من يراه فى تنفيذ إرادة الأمة أيا ما كانت , ومنا من يراه فى نسف كل ما مضى والاعتماد على العقل المجرد فى تحديد المصلحة و اتباعها حيث كانت .
ولو نجحت تلك الصيغة التى ننشدها فى احتواء رؤى هؤلاء جميعا و اعتمادها لضمنت وبلا أدنى شك تحصيل ولائهم و دعمهم جميعا , وذلك لأنهم فى الأصل مخلصون , ويعلم كل منهم فى داخله أن هناك ضرورة قصوى و أولوية عاجلة لتحقيق وحدة الصف و الهدف , فإذا وجد الفكرة أو النظام الذى يستفيد من رؤيته ويفعلها و يحقق أهدافها و يستغل قوته و إخلاصه وفى ذات الوقت يجمعه بباقى قوى الأمة أفرادا و جماعات فى بنيان واحد وتحت لواء واحد ونحو هدف واحد فان ذلك بلا ريب يمثل تحقق أسمى و أغلى أحلام عمره إن كان مخلصا بحق .
وعلى ذلك فلإيجاد تلك الفكرة التى تقود ثورتنا و توحد جماعتنا علينا أن نبحث عن الحق مجتمعين من خلال ثلاثة محاور رئيسية قد تبدو للبعض متوازية لا تتقاطع ونراها عكس ذلك , بغية الوصول إلى نقطة تقاطعها التى تمثل اجتماع هذه المحاور والتى تعبر فى النهاية عن تلاقى الرؤى الأساسية السائدة فى المجتمع و المصادر المانحة للشرعية لأي عقد اجتماعي به , وهذه المحاور الرئيسية هي :
- الشريعة الإسلامية كمصدر تشريعي لا يمكن إغفاله .
- اتجاه الإرادة الجمعية للأمة على اعتبار أنها مصدر السلطة .
- ماهية المنهج السليم من خلال العقل المجرد الباحث عن المصلحة .

وإذا نجحنا فى الوصول إلى تلك الرؤية التى تجمع رؤانا جميعا تحت لوائها وتمكننا من صياغة عقد اجتماعي جديد يحظى بتأييد كافة المصادر المانحة للشرعية فى المجتمع نكون قد قطعنا أكثر من نصف الطريق فى محاولة إعادة مصر إلى حاضر الأرض و مستقبلها بخطوة واحدة , ولو عادت مصر لعاد العرب , ولو عاد العرب لعاد المسلمون , ولو عاد المسلمون فما من قوة على وجه الأرض يمكنها أن تنازعهم زعامتها , وإذا لحكم العدل وساد بعد حكم طويل للفساد ممثلا فى قطبه الأوحد .
والأمل كل الأمل يبقى فى المخلصين من أبناء هذه الأرض الطيبة , الذين آن لهم أن يجتمعوا لنصرتها , وآن لها أن تستريح من ظلم أعدائها وخيانة أبنائها بعد أن تجرعت وتجرعنا معها المر والذل والعذاب و الهوان أصنافا و ألوانا .


وإذا ما تم استجماع أجزاء الصورة لوجدنا أننا أمام مشكلة شرعية حكم واضحة وصريحة , وتلك المشكلة ليست مشكلة نظام حاكم وإنما مشكلة نظام حكم , مشكلة منهج و تشريع يسمح و يمنع و يثيب و يعاقب و يعطى الشرعية للنظام الحاكم تماما كما تعطيها إرادة الشعوب و الأمم .
ولا يكون النظام الحاكم شرعيا إلا إذا جمع بين هذين الأمرين , الخروج من الإرادة الجمعية للأمة والعمل فى ظل تشريع و منهج سليم .
و هذا هو لب الأمر , علينا أن نبحث فى اتجاهين أساسيين , أولهما هو ماهية ذلك المنهج السليم الذي يضمن انتشالنا من هذا المستنقع الذى قذفنا بأنفسنا فيه و ينزع عنا وساخاتنا و يسمح لنا أن نحلم ببلوغ مكانة متقدمة بين الأمم و يحقق لنا لذلك .
و ثانيهما هو اتجاه الإرادة الجمعية لهذه الأمة الصامتة , و أي مناهج الحكم تريد ؟!

لذلك وجب على كل عاقل قبل أن يخرج مناديا بسقوط الأنظمة أن يفكر فى ماهية النظام الجديد , قبل أن ينادى بالإصلاح أن يحدد معالم الصورة الصالحة التى يريدها لوطنه و التى خرج من أجلها .
لا أن نخرج كجماعات وأحزاب و مذاهب دينية و سياسية و فلسفية وغيرها , لم تجتمع مطلقا على شيء و اجتمعت الآن منادية بسقوط النظام , و يقال لنا أن هذا هو خير تمثيل لوحدة الأمة و اجتماع كل أطيافها على مطلب واحد وهو الإصلاح , وذلك على الرغم من أن لكل منهم منهجه و نظرته للإصلاح , والتى لا تتشابه من قريب أو بعيد مع رؤية أى فرقة أخرى سواء كانت دينية أو سياسية , فللإسلاميين والحزبيين عشرات الرؤى المتنافرة المتناحرة , و لو تمكن أحدهم من السلطة لنكل بالباقين ... كل الباقين , و لقاتله هؤلاء الباقون كما يفعلون الآن جميعا مع النظام .
وإذا نظرنا لوزن هذه الأحزاب والجماعات فى المجتمع لوجدنا أنها لا تساوى شيئا , فهى لا تمثل أى توجه حقيقى بالشارع , ليس ذلك فقط, بل إن أغلبها إن لم تكن جميعها مذمومة و مكروهة و غير ذات قيمة عند المواطن العادى, و الذى ينظر إليهم جميعا على أنهم مجرد طلاب سلطة , سيذيقونه ووطنه أصنافا جديدة و مبتكرة من الضياع و الفشل و العذاب و الهوان .

اتجاه الإرادة الجمعية للأمة وماهية المنهج السليم


اتجاه الإرادة الجمعية للأمة :

والدليل على ذلك يظهر جليا من خلال مزحة الانتخابات المصرية الأخيرة سواء الرئاسية أو البرلمانية , و ذلك من خلال نسب المشاركة فيها و نتائجها و ما حدث بها من تجاوزات , فنسبة المشاركة بالانتخابات المصرية عامة تتراوح بين 18% :23% ممن لهم حق التصويت و البالغ عددهم 32 مليون كما بالإحصاءات المعلنة رسميا , و 50 مليون كما تقدرهم بعض قوى المجتمع المدني , أي أن عدد من يشاركون من شعب مصر البالغ تعداده 76 مليون إنسان فى عملية اختيار رئيس الدولة أو من يمثلون الشعب فى البرلمان يتراوح بين 5 : 7 ملايين , أي أن هناك 70 مليون مصري تجاوزا من 76 مليون ينأون بأنفسهم عن المشاركة فى العملية الانتخابية و التى يخرج عنها من يتحكمون فى أرزاقهم و مصائرهم و لذلك دلالات خطيرة و مبشرة على عكس ما يرى الكثيرون .
فامتناع هذا الشعب عن المشاركة فى العملية الانتخابية لم يخرج من سلبية هذا الشعب كما يتصور البعض , ولا من جهل مطبق كما يتصور آخرون .
وإنما خرج من حكمة تحيا فى ضمائر شعب عظيم , و خبرة تحملها تجربة آلاف السنين , وصبر ما بعده صبر , و رباط ليس كمثله رباط .
و لتوضيح ذلك علينا أن نناقش بشيء من التفصيل تجربة الانتخابات الرئاسية الأولى فى مصر و انتخابات مجلس الشعب لعام 2005 .
و إذا بدأنا بالانتخابات الرئاسية لوجدنا ضغوطا داخلية و خارجية تدفع جميعها فى اتجاه تعديل الدستور و تحويل عملية اختيار رئيس الدولة من الاستفتاء إلى الانتخاب المباشر بين أكثر من مرشح , و على الجانب الآخر نظام يعارض و باستماتة من قمته إلى قاعدته أي تعديل للدستور و يصف ذلك بالبطلان فى حال حدوثه .
ثم فوجئ الجميع و قبل موعد الانتخابات الرئاسية بوقت قصير بإعلان رئيس الجمهورية تعديل المادة 76 بالدستور و تحويل نظام انتخابات الرئاسة من الاستفتاء إلى الانتخاب المباشر , وأحيل المشروع إلى مجلس الشعب سريعا ليحدد الشروط الخاصة بالمرشحين و يضع صياغة التعديل , ولأن مجلس الشعب ليس إلا جهازا تابعا للحزب الوطني الحاكم بحكم تمتعه بالأغلبية الساحقة الصاعقة فيه , فقد نجح فى تمرير تعديل ممسوخ يحمل من السلبيات و المصائب ما يحمل , ولكن أبرز ما كان يحمله هو جهر الحزب الوطني بفرض إرادته على شعب مصر رغما عنه و أمام عينه لا فى لحظة تغافل , و توجيه رسالة كرسائل القوى الغازية للشعوب المحتلة , مفادها أنه لن يقبل إلا أن يحكمنا رغما عنا , و أن علينا أن نتغافل كعادتنا و أن نشترك فى المسرحية الهزلية التى خطط لها لنظهر أمام أنفسنا و أمام الناس وكأن لنا إرادة نعبر عنها و ننفذها , ثم نعود لحظائرنا و جحورنا !!!
فقد وضع شروطا للترشح لا يستطيع الوفاء بها إلا أولو العزم من الرسل , فكيف يستطيع مرشح مستقل الحصول على تأييد 250 عضو من أعضاء المجالس التشريعية و النيابية و التى تقع بالكامل تحت سيطرة الحزب الحاكم .
و كيف يستطيع حزب هو فى الأصل عبارة عن لافتة بالية و صحيفة فقيرة و دورة مياه من الحصول على 5% من المجالس المسبحة باسم الحزب الوطني ؟!!
و لأنهم يدركون ذلك ولإتمام المسرحية الهزلية فقد سمح التعديل و كحالة خاصة بتلك الانتخابات الرئاسية الأولى بترشح رؤساء الأحزاب بدون الحصول على نسبة ال5% المقررة .
و ترشح رؤساء الأحزاب البضعة عشر إلا حزبين , وبدأت فصول المسرحية فى التكشف أكثر فأكثر بعد أن اكتشف الشعب وجود أحزاب ورقية بمصر تقع بالكامل تحت سيطرة الحزب الوطني و أعدت ليوم كهذا , وذلك لأن المرشحين البضعة عشر لم يكونوا مؤهلين لخوض انتخابات مجلس الشعب لا رئاسة الدولة , فلم يكن لأي منهم برنامج انتخابي واضح , ولا رؤية واضحة يستطيع أن ينقذ بها هذا الشعب من براثن الفساد و الفقر , بل و الأكثر من ذلك مما يثير السخرية و الشفقة على هذه الأرض الحزينة هو تقدم بعضهم ببرامج و أهداف تدفع الجماهير عنهم , و ترسخ فى داخلها عدم صلاحية أي من هؤلاء لرئاسة الدولة مطلقا , مما يصب تلقائيا فى صالح مرشح الحزب الوطني و رئيس الدولة , فمنهم من خرج ينادى بعودة الطربوش للرجل و البيشة للمرأة كزي رسمي , و كأن حل مشكلة الأمة و طريق عودتها لحاضر الكوكب و مستقبله يكمن فى إعادة الطربوش و البيشة !
و منهم من خرج يندد بقرار فصل مصر عن السودان و الذى كان منذ عشرات السنين و ينادى بعودة وحدة وادى النيل , ولم يحدد كيف و تحت أي منهج , و كأنه لا يعلم شيئا عما يحدث بالسودان من انقسام بين أهله , وكأن هذا القرار هو ما أثار ضيقه فى تاريخنا المليء بالخطايا و اللطمات و التنازلات المرة , وكأن هذه الوحدة هى ما ينصلح به حال هذا الشعب الذى من المفترض أن يسعى لكسب تأييده.
بل و خرج منهم من يبايع مرشح الحزب الوطني و رئيس الدولة و يعلن أنه و حزبه سينتخبونه لأنه الأفضل و الأحق بالفوز , فلم رشح نفسه فى الأصل ضده طالما أن هذا هو موقفه , أطمعا فيما تمنحه الدولة لمرشحي الرئاسة أم سعيا وراء الشهرة والشاشات أم انصياعا لأمر الاشتراك بالمسرحية أم كل هذا و غيره مما لا نعلمه .
و هكذا كان المرشحون , و هكذا رآهم الشعب الفطن الذى وجد نفسه أمام أربعة خيارات لا خامس لها , فإما أن يختار الحزب الوطني والذى يرى فيه سبب أزمته الرئيسي , وإما أن يختار أحد المرشحين الذين لا نثق فى قدرتهم على إدارة بيوتهم حتى نخول لهم سلطة إدارة أمة , وإما أن يعلن الإضراب و العصيان والذى يمثل كارثة الكوارث و أخطر الخيارات فى ظروف كتلك التى نحياها وفى ظل عدم وجود فكرة ظاهرة يتوحد عليها الناس.
أما الخيار الأخير فهو مقاطعة تلك الانتخابات و الامتناع عن المشاركة فيها وترك المجال أمام الحزب الحاكم و مؤيدوه و أصحاب المصالح معه و شريحة من فقراء هذا البلد قد تبيع صوتها للحصول على المال لإنجاح مرشحه .
و بناء على موازنة دقيقة جرت فى ضمير هذا الشعب , و رغبة منه فى التعبير عن رفضه وبمعيار أفضل الأسوأ اختار خيار المقاطعة وترك الأمر يجرى كما خطط له.
و بالفعل كان ذلك ما حدث , فلم يشارك فى انتخابات الرئاسة سوى ما يقرب من سبعة ملايين مواطن من شعب مصر , كان نصيب مرشح الحزب الوطني و رئيس الدولة منها ستة ملايين صوت , أي أن ستة ملايين مصري قالوا نعم لنظام الحكم القائم و سبعين مليون قالوا لا تجاوزا , فأي عرف هذا الذى تعطى فيه الشرعية لنظام حكم يؤيده أقل من 8 % من شعبه ؟!!
و هكذا أعلنت الأغلبية الصامتة عن نفسها و بقوة , إلا أنها لم تعلن عن إرادتها وتوجهها , فما أعلنته هو رفض النظام القائم و رفض الاشتراك فيما يفضى حتما إلى استمراره , ولكنها لم تحدد البديل المناسب من وجهة نظرها لأنه لم يكن مطروحا ضمن البدائل المفروضة عليها .
ثم جاءت الانتخابات البرلمانية و بنفس نسب المشاركة الهزيلة , إلا أنها أظهرت اتجاه إرادة هذا الشعب و المنهج الذى يريده فى حكم حياته , بعد أن طرح عليه البديل الذى ينتظره و يتمناه وهو الإسلام وان كان قد طرح مشوها مبتورا , تابعا لا متبوعا , ممثلا فيمن لا يجب أن يمثلوه وهم جماعة الإخوان المسلمين , حيث حصلت تلك الجماعة منفردة على خمس مقاعد المجلس و البالغ 88 مقعدا فى سابقة هى الأولى من نوعها , فما حصل على هذه النسبة أي اتجاه أو حزب من قبل , ولو سارت الانتخابات بشكل طبيعي دون تدخل من قوات الأمن و البلطجية المأجورين لحصدت تلك الجماعة أكثر من ذلك بكثير , فبعد أن اكتسح الإخوان نتائج المرحلة الأولى بدأت تجاوزات الأمن المتحرك بأوامر الحزب الوطني , حتى وصلت فى المرحلة الثالثة إلى محاصرة اللجان الانتخابية , ومنع المواطنين من الإدلاء بأصواتهم فى الدوائر التى يخشى من تفوق الإخوان فيها , بل والاصطدام بالجموع التى أرادت الدخول للتصويت و إيقاع أربعة عشر قتيلا و خمسمائة مصاب , و رأى العالم عبر الشاشات بعض الناخبين ممن نجحوا فى الالتفاف على الحصار الأمني وهم يتسلقون أسوار اللجان ليتمكنوا من الدخول و الإدلاء بأصواتهم وكأنهم لصوص وليسوا أصحاب حق !
هذا بالإضافة إلى الاعتداء على بعض القضاة المشرفين على اللجان والذى يمثل سابقة خطيرة تنذر بسقوط مؤسسة القضاء و تعلن قوى الأمن سلطة فوق جميع السلطات , وسيفا مسلطا على رقاب الجميع يبطش بمن تسول له نفسه التحرك على غير الخط الذى رسم له .
هذا بالإضافة إلى مجموعة من التجاوزات المحفوظة و المتكررة و التى أصبحت ركنا أساسيا من العملية الانتخابية فى مصر , كتلك المتعلقة بقوائم الناخبين وتصويت الأموات و منع الأحياء و شراء الأصوات حتى وصل سعر الصوت فى بعض الدوائر إلى ألف جنيه و تجاوزت نفقات بعض المرشحين الخمسين مليونا .
كل ذلك كان للقضاء على فرص جماعة الإخوان المسلمين فى التقدم بعدما حصدته من مقاعد فى المرحلة الأولى والتى تميزت بحياد قوات الأمن و عدم تدخلها , وما كان ذلك الحياد إلا لتحقيق تلك النتيجة ليستخدمها النظام الحاكم فى الضغط على حلفائه الخارجين الذين يضغطون عليه لإقامة انتخابات ديموقراطية وكأنه يقول لهم أن الديموقراطية و الممارسة الانتخابية السليمة ستأتى بالإسلاميين الذين يريدهم الشعب و الذين يمثلون أسوأ البدائل فى نظر هؤلاء الحلفاء , وبالفعل حدث بعد ذلك ما ذكرناه من ممارسات مشينة , و قتل من قتل و أصيب من أصيب و منع من منع , ولم يتحرك هؤلاء الحلفاء الذين يقيمون الدنيا ولا يقعدونها إذا ما مس فأر يواليهم بسوء .
ولم يكن التصويت بتلك الكثافة لمرشحى جماعة الإخوان مبنيا على شعبية تلك الجماعة كما قد يتصور أتباعها .
و كذلك لم يكن تصويتا انتقاميا فحسب , الهدف منه إسقاط مرشحى الحزب الوطني بعد أن ضاق بهم الناس كما يتصور آخرون , فلو كان الهدف هو إسقاط الحزب الوطني فقط , فلم لم تتجه الأصوات إلى مرشحى الأحزاب السياسية على مختلف توجهاتها والتى حصلت مجتمعة على أقل من 3 % من مقاعد البرلمان ؟!!
وإنما كان تصويتا للإسلام الذى اتخذت منه تلك الجماعة دون وجه حق شعارا لها كحل لجميع مشاكلنا وهو كذلك بلا ريب .
فإرادة الناس تتجه إلى الإسلام , ولم يكن معروضا عليهم كممثل للإسلام فى تلك الانتخابات إلا جماعة الإخوان , فأعرضت الأغلبية عن المشاركة كحالها دائما لأنها وان كانت تريد الإسلام كنظام حياة فإنها لا تريده ممثلا فى واحدة من الجماعات الإسلامية التى نحاذر منها جميعا و يعلم أكثرنا فساد مناهجها و تاريخها .
إلا أن شريحة صغيرة من بسطاء هذه الأغلبية قررت المشاركة واختيار مرشحى الإخوان بمعيار أفضل الأسوأ مجددا, حيث رأت أنهم و فى أسوأ الأحوال يمثلون بديلا أفضل من الحزب الوطني الذى ذاقوا معه المر أصنافا و ألوانا ومن الأحزاب السياسية المتأرجحة بين مناهج اليمين و اليسار والتى لا تعلم عنها تلك الأغلبية شيئا ولا تريد أن تعلم .
وهكذا فاز الإخوان لا الإسلام , إلا أنهم محسوبون عليه ويتحمل كل ما ينتج عنهم من أخطاء , تماما كما كان الحال مع طالبان و الجهاد و الجماعة الإسلامية وغيرهم من الجماعات , فتزداد بذلك صورة الإسلام تشوها فى عيون أبنائه و أعدائه .

و بعيدا عن الأحزاب السياسية التخيلية و الجماعات الإسلامية الضالة , إذا ما نظرنا لعموم الأمة لوجدنا أغلبية عظمى من الناس تؤمن بالله و تقيم الإسلام فى حياتها الخاصة من عبادات مفروضة و أخلاق حسنة و معاملات عادلة , و تعلم أن سبب ضياعنا و فساد حالنا هو عدم تطبيق الإسلام فى حياتنا كنظام حكم رغم علم الجميع أنه ما من مصلحة للناس إلا و لها فى تشريعاته ما يحميها و يدفع إليها .

ويمثل هذا الاتجاه تيارا جارفا داخل تلك الأغلبية الساكنة المتربصة والتى إن خرجت يوما لحزمت أمرها فى ساعة من نهار , ولكن ما الذى يبقيها ساكنة هكذا إذا كان لها كل هذه القوة داخل المجتمع ؟!
و الإجابة على هذا السؤال تكمن فى أمر واحد وهو الجماعات الإسلامية ..... نعم الجماعات الإسلامية هى العائق الأكبر و الحاجز المنيع بين الأمة و طلب تطبيق الشريعة , و لولا وجود تلك الجماعات لما وصل حالنا إلى ما نحن عليه , و لكان الإسلام هو منهج دولتنا منذ قرون وليس سنين , فمنذ أن أطلت علينا تلك الجماعات و الفرق بوجهها القبيح و ممارساتها الشاذة البعيدة كل البعد عن الإسلام و كان ذلك منذ قرون و نحن نتشرذم و نتفتت و نسحق تحت أحذية أعدائنا .
وسبب إحجام الغالبية العظمى التى تريد تطبيق الشريعة عن إعلان مطلبها والخروج لإظهاره كباقى القوى الوطنية هو خشيتها من أن يذهب الأمر إذا ما نودي بالإسلام لأحدى تلك الفرق الإسلامية فنضيع أكثر و أكثر .
و إذا ما نودي بالإسلام فأي المناهج نطبق ... وهى كثيرة ومتضاربة , وما خرجت إلا من تلك الجماعات الضالة.
وإذا ما كان للحاكم المسلم رؤية تطبيقية شأنه فى ذلك شأن كل الأئمة المجتهدين , فهل ستتركه تلك الجماعات يعمل فى ظروف آمنة أم ستصطاد فى الماء العكر وتستخدم أخطاءه -إن وجدت- مثله مثل باقى البشر , أو تخلق له الأخطاء بالكذب وتستخدمها فى الخروج عليه و تحت لواء الدين كما يصورون أو يتصورون .
كل ذلك يراه المواطن العادي بفطرته السليمة و التى تأكدت من فساد مناهج تلك الجماعات و توجست منها , لذلك رضي الناس بالخضوع و الاستسلام لنظم مستبدة تتنقل بين المناهج و النظريات بحسب هواها , ارتضوا أن يحكموا بقوانين استثنائية كالطوارئ تخول للسلطة و ممثليها الحق فى فعل كل شيء , ويكون فعلهم هذا قانونيا وذلك لأن القانون صار هو الاستثناء !
و هكذا نرى أن أعداء تطبيق الإسلام فى الداخل يبررون موقفهم بفساد الجماعات وتعدد مناهجها و تضاربها .
و نرى أيضا أن المنادين بتطبيق الشريعة يحجمون عن إخراج ذلك النداء بسبب تلك الجماعات .
و هكذا يتبين لنا أن هذه الجماعات تمثل المانع الحقيقي و الوحيد أمام الجميع فى طريق تطبيق الشريعة و خروج الأمة مطالبة بحزم أمرها فى يدها , خوفا من أن يؤول الأمر لأحد هؤلاء, على الرغم من أن هذه الجماعات قامت فى الأصل يوم أن قامت لتطبيق الشريعة , أو على الأقل كان ذلك هو هدف المخلصين منهم .
هذا بالإضافة إلى المدعومين من الخارج و ما أدراك ما خطر هؤلاء إن تولى أحدهم الأمر .
كل ذلك بث الخضوع و اليأس و الخوف و الترقب دون فعل فى نفوس الناس و كأن الأمر لا يعنيهم , و لا هذا البلد بلدهم ولا تلك الحياة حياتهم , فصاروا كجسد يحتضر منذ سنين .
ولكن أين هى نقطة الانطلاق , وما هو المنهج الذى ينتهجه هذا الميت الحي ليعود إلى الحياة و يبلغ غايته ؟!!

ماهية المنهج السليم :

من البديهي أن تكون أولى خطوات البحث عن المنهج السليم الذى يستطيع إصلاح حالنا وإعادتنا إلى الحياة هى إلقاء نظرة سريعة على تاريخنا الحديث فى محاولة لتقييم المناهج و النظم التى حكمتنا , وإذا ما فعلنا ذلك لوجدنا أنه يمثل أسمى آيات التخبط و الضلال , فمن القومية إلى الاشتراكية إلى الرأسمالية و بقرارات لحظية لا يدرك متخذها عواقبها أو يدرك و يتغافل , ثم صرنا إلى حالة غريبة من التجمد منذ ما يزيد على الربع قرن , و فى كل تلك العهود و المناهج المختلفة فى الحكم , والتى ألهنا فيها حكامنا كنا نسير من سيء إلى أسوأ , و من نكبة إلى نكسة , اللهم إلا من بعض الانتصارات المحدودة الزائفة والتى ضخمتها لنا وسائل إعلامهم فرأيناهم أبطالا مخلصين , فاستمدوا من ذلك شرعية وجودهم فى السلطة , وذلك على الرغم من أن البطل الحقيقي فى كل تلك الانتصارات المحدودة كان هو الشعب رغم ضياعه .
و حالنا اليوم هو أبلغ دليل على سفه و فساد كل تلك المناهج التى طبقناها أو عدم صلاحيتها للتطبيق على الأقل فى بلادنا .


ولأن منهج الحكم السليم هو ذلك المنهج الذى يضمن تحقيق مصالح الأمة المشروعة العليا و الدنيا , القريبة و البعيدة , فان البحث فى تاريخ الأمم عامة و تاريخنا خاصة و دراسة المناهج و النظم التى استخدمت لإدارة البلاد , و قدرة كل منها على رفع مكانة أصحابه بين الأمم , و قدرة كل منها على الاستمرار و التكيف مع العصور والظروف المختلفة , و قدرة كل منها على التعامل مع الآخر وصد عدوانه إن اعتدى , لما وجدنا على ظهر الأرض عبر تاريخها أفضل ولا أسلم ولا أعظم ولا أعدل ولا أرقى من الإسلام , فأي منهج غيره استطاع أن يحول بعض القبائل المتناحرة المتقاتلة لصالح الفرس و الروم و التى يقوم اقتصادها على رعى الأغنام فى الصحراء إلى أقوى أمم الأرض بفارق مئات الخطوات عمن يليها , و فى خمسين عاما تقريبا سيطرت على الأرض من أقصاها إلى أقصاها , و لم تقف عند هذا الحد و إنما فاضت بعلومها و أخلاقياتها على من حولها من الأمم , و خرجت أوروبا بذلك من عصر الظلمات و بنت حضارتها على علوم المسلمين و رأى العالم انهيار القطبين الرئيسيين فى ذلك الزمان ...الفرس و الروم , وظهور الإسلام كقطب أوحد أقام ميزان العدل فى الأرض و أعطى كل ذى حق حقه , و ليس قطبا أوحد كالذى نراه فى عالم اليوم , ينشر الفساد والفتن فى الأرض , و يسرق موارد الناس و يعبث بمصائرهم تبعا لهواه .
ثم يقول لنا أن الطريق لإصلاح حالنا هو الفوضى الخلاقة , أي إحداث حالة من الفوضى تخرج فيها كل الاتجاهات و الأحزاب و الجماعات و اللصوص والمأجورين وهم عنصر أساسي لإحداث الفوضى , فيفعل كل منا ما يريد ووفق أي تصور , سواء كان ذلك بالقتل أو الاغتصاب أو غيره , وتكون نتيجة تلك الفوضى الخلاقة هى محصلة تضارب قوى الأمة و التى غالبا ما تكون صفرا لأن كلا منا قد أنهك الآخر أو أفناه , و نفاجأ بأن أمرنا قد ذهب لمأجورين هم فى الأصل أحقرنا وأرذلنا و أقذرنا ولكنهم مدعومون ممن نصحونا بالفوضى الخلاقة و مدربون على أيديهم .
هذا هو القطب الأوحد الحالي وهذا مسلكه معنا خاصة ومع الأمم عامة , فانظر إلى الفرق بينه و بين الإسلام حين كان قطبا أوحدا و تأثيرهما المتناقض على باقى الأرض من حولهما !

و تزكيتنا للإسلام و اعتبار أنه هو المنهج الأسلم و الأمثل لا يخرج من تحيز أعمى أو حمية حمقاء , و إنما يتولد من العقل المجرد إذا ما درس و قارن و حيد هواه وأخلص فى أحكامه , و هذا ما علمه أعداؤنا , بل وكان سببا أساسيا فى عدائهم لنا , ولن يهدأوا إلا بطمس معالم الدين فى صدورنا و عقولنا قبل كتبنا , و ذلك لأنهم علموا أنه بقدر ما نطبق من الإسلام بقدر ما نسود فى الأرض , و نحن مازال بعضنا يشكك فى تلك الحقيقة , و بعض آخر ينادى بفصل الإسلام كدين عن الدولة مدعيا عدم صلاحيته الزمنية وهما كل لا ينفصل , فلا يقوم الدين إلا بالدولة ولا تقوم لنا دولة إلا بإقامة الدين , و بعض آخر أشد ضلالا يرى أن سبب ضياعنا الأساسي هو هذا الدين , ويتذرع ذلك الصنف من الناس بفشل نظم الحكم الإسلامية كما حدث فى أفغانستان مثلا , و تكايد و تناحر كل الجماعات و المذاهب الإسلامية فيما بينها .
وللجادين غير الجاحدين من هؤلاء سنقوم بمناقشة أمر تلك الجماعات باستفاضة عقلا و نقلا حتى يتبين الحق جليا لا ينكره إلا كل جاحد مستكبر , حيث ظهر وبوضوح أنها تمثل مفتاح الباب المغلق بيننا و بين ما نريد من تطبيق للشريعة ,
فإما فتحنا الباب بهذا المفتاح بعد أن علم وظيفته كمفتاح يجب أن يكون فى يد غيره ليتحقق الفتح , وإما ظل هذا المفتاح متكبرا مغرورا لا يرضى أن يبقى فى يد تفتح به حتى يأتي أمر الله وحكمه فيظهر الحق ويخذل الباطل .

ولكن قبل مناقشة الجماعات لابد أن يثبت فى داخل كل منا حتمية تطبيق الإسلام كنظام حكم , وواجب كل مسلم فى السعي لذلك بعيدا عن النظرة التاريخية المقارنة للمناهج و ذكريات الماضى العريق , و بأسلوب منطقي لا يدع مجالا لمتشكك أو ثغرة لمكذب , و بعد ذلك يمكننا أن نتساءل عن كيفية التطبيق والموقف من الجماعات و الفرق المختلفة .
ولتوفير الوقت و الجهد علينا أن نوجه لأنفسنا بعض الأسئلة المباشرة والصريحة .
فبداية عليك أن تسأل نفسك ... هل تؤمن أن لهذا الكون الها خلقه و خلقك ؟!
إذا كانت إجابتك بلا فاذهب ولا تكمل فما تقرأه لا يخصك , وان كانت بنعم فأعد السؤال على نفسك و حاول إدراكه بشكل أوضح ..... هل لهذه الأرض رب ؟!
إذن فأنت تصر على الإجابة بنعم مؤكدا أنك تؤمن أن لهذه الأرض ربا خلقها وخلقك و ليس لديك شك فى ذلك.
حسنا ... وليكن سؤالنا الثانى هو هل تقر لربك الذى خلقك بحقه فى أمرك و نهيك كما يشاء ؟!
إذا كانت إجابتك بلا فاذهب ولا تكمل , فما تقرأه لا يخصك , وإن كانت بنعم فأعد السؤال على نفسك مرارا و تكرارا محاولا استخلاص الإجابة الحقيقية الكامنة فى داخلك , هل لربك الذى خلقك حق فى أمرك و نهيك كما يشاء ؟! ألا يساورك شك فى ذلك؟ ألا ترى فى نفسك ضيقا منه ؟ أمتأكد أنت ؟
إذن فأنت تصر على أنك تقر لخالقك بحقه فى أمرك و نهيك و واجبك فى الامتثال .
حسنا ... وليكن سؤالنا الأخير هو هل تؤمن أن ربك الذى خلقك و أمرك و نهاك سيميتك فى يوم لا محالة ثم يبعثك من جديد فى يوم يحاسبك فيه على مقدار التزامك بأوامره و نواهيه فى حياتك فيكافئك إن كنت قد أطعت ويعذبك إن كنت قد عصيت .
إذا كانت إجابتك بلا فاذهب ولا تكمل ...فما تقرأه لا يخصك , وإن كانت بنعم فأستحلفك بالله أن تتيقن من مشاعرك و مدى إيمانك بهذا الأمر , هل تؤمن حقا أنك بعد أن تموت ستحيا من جديد ؟! هل تصدق ذلك فعلا ؟! وليس ذلك فقط بل ستقف أمام ربك فيحاسبك على ما فعلت فى حياتك الأولى و يكون مصيرك فى نعيم الجنة أو فى عذاب النار ..... هل تؤمن فعلا بالجنة و النار ؟! أليس لديك شك فى هذا ؟! راجع نفسك !
حسنا ... إذن فقد وصلنا الآن إلى مسلمات تسلم بها وليس لديك أي شك فيها وهى كما يلى :
- أنك تؤمن أن لهذه الأرض ربا خلقها و خلقك .
- و أنك تقر بحق خالقك فى أمرك و نهيك و واجبك فى الامتثال .
- و أنك تؤمن أنه سيبعثك بعد موتك و يحاسبك على مدى التزامك بأوامره ونواهيه , فإما نعيم مقيم وإما عذاب أليم .
فاعلم يا من تدعى الإيمان أن للإيمان مقتضيات لا يكون إلا بها , و نواقض لا يكون فى وجودها , و تلك المقتضيات و النواقض محددة وواضحة و مستخرجة من كتاب ربك الذى أقررت منذ قليل بحقه فى أمرك و نهيك , وهى كثيرة و مترابطة و متفاوتة فى أهميتها و كلها مهم .
و لسنا هنا فى مقام حصرها و دراستها, لذلك سنعتمد على القليل الواضح و الكافى تماما للقيام بالغرض.
فإذا علمت أن ربك يقول مخاطبا رسوله صلى الله عليه و سلم (فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا ) *النساء 65*
و معنى هذه الآية الواضح لمن قرأها و سمعها مئات المرات دون أن يحاول إدراك معناها , أو أدرك و لكنه تغافل عن الأمر , أن الله عز و جل يقسم بنفسه سبحانه على أنه لا يؤمن أحد حتى يحكم الرسول صلى الله عليه و سلم فى جميع الأمور , وليس ذلك فقط بل ويرضى بذلك الحكم ولا يجد فى داخله أى ضيق أو مدافعة أو ممانعة تجاهه و يسلم له تسليما كليا , و المقصود بحكم الرسول هنا هو حكم الدين الذى أرسل به الرسول صلى الله عليه و سلم ليقوم بتطبيقه .
و إذا علمت أن ربك الذى خلقك يقول عن عدم تحكيم الشريعة :
(وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ). *المائدة 44*
(وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ). *المائدة 45*
(وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ). *المائدة 47*
و معنى الآيات واضح , و هو أن الذين يستخدمون مناهج أخرى فى الحكم غير المنهج الذى أنزله الله هم الكافرون الظالمون الفاسقون .
و من قال أن الذين يندرجون تحت هذه الآيات و حكمها هم الحكام الذين يحكمون بشكل فعلى , أما الشعوب فهى مغلوبة على أمرها وسيجزيها الله خيرا على صبرها نذكرهم بالأثر القائل : ( كيفما تكونوا يول عليكم ).
أي أن هؤلاء الحكام ما كانوا كذلك إلا لوجود شعب خلفهم يتصف بنفس صفاتهم , شعب لم يرد تحكيم شريعة الله فى حياته بسبب انبهاره بالحضارة الكاذبة التى اقترن فيها التقدم بالإباحية و الحرية الشخصية إلى حد الشذوذ .
و لأن هذا التقدم يعنى المزيد من الرخاء و المتعة فقد رأت شعوبنا أن الطريق الحتمي لذلك هو نموذج الحرية العلمانية , و هكذا خرج من تلك الشعوب حكام لهم نفس الرؤية , و لما تحقق الفشل الذريع كنتيجة طبيعية لتطبيق مناهجنا الفاسدة صرنا نبغضهم و يبغضوننا , و نلعنهم و يلعنوننا .
وإذا علمت أن الله ربك الذى تقول أنك تؤمن به يخاطب المؤمنين آمرا إياهم بقوله تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) . *النساء 59*
و طاعة الله و الرسول و أولى الأمر تكون بتحكيم شريعة الله و تنفيذ أحكامه و إقامة حدوده, و رد كل ما نتنازع فيه إلى كتاب الله و سنة رسوله ليحكم بيننا , هذا إن كنا نؤمن بالله و اليوم الآخر كما تقول الآية , و تختتم الآية بترغيبنا فى فعل ذلك مشيرة إلى أن عاقبة و نتيجة التطبيق هي الأفضل و الأحسن .
و يستنكر رب العالمين اتجاه إرادة بعض الناس إلى استخدام مناهج أخرى فى الحكم غير المنهج الذى أنزله فى قوله تعالى (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ). *المائدة 50*
واعلم أن ربك الذى خلقك قد سمى كل معبود يعبد فى الأرض سواه و كل من يقدم للناس شريعة يتحاكمون إليها غير شريعة الله أو يحكم بها , و كل من يخذل الناس عن تحكيم شريعة الله , كل هؤلاء أطلق عليهم ربك اسما واحدا ... وهو الطاغوت , فانظر ماذا قال ربك فى الطاغوت علك توقن و تنيب إليه , فمثلا قال تعالى : (ألَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيدًا). *النساء 60*
و فى هذه الآية يلفت الله نظرنا إلى أناس يزعمون أنهم قد آمنوا بما أنزل على رسولنا محمد صلى الله عليه و سلم , و ليس ذلك فقط بل و يؤمنون كما يزعمون بما أنزل على الرسل من قبله , ورغم ذلك فإنهم لا يتحاكمون إلى ما يؤمنون به كما يقولون , بل تتجه إرادتهم و أفعالهم إلى تحكيم الطاغوت فى أمور حياتهم , والطاغوت هنا هو كل التشريعات و القوانين الوضعية البشرية المغايرة لشرع الله , أوليس ذلك هو حالنا تماما بعد أن رضينا بحكم الطواغيت و حصرنا الإسلام كما يريدون فى بعض العبادات التى لا نقوم بها على الوجه الصحيح أيضا , فصار الإسلام أسيرا مسلسلا فى المسجد ,أما خارج المسجد فلا حديث فى الدين , ومن يتحدث فى الدين و أصوله ووجوب تطبيقه فهو خارج على القانون كما يقولون , إذن فالمطلوب منا و هو واضح تماما أن نخرج على قانون خالق كل شيء لكي لا نخرج على قانون وضعي , وضعه بشر مثلنا يخطئ و يصيب , و هو فى ذلك مخطئ إلى أبعد الحدود , حيث تجرأ على أن يضع للناس دستورا لحياتهم يحارب به دستور رب العالمين , بل ووضع العقوبات الرادعة لمن لم ينفذ , و لكل من ثار غضبا لدستور ربه .

الجماعات الاسلامية


الجماعات الإسلامية

لما كانت الجماعات الإسلامية بتعدد مناهجها وتناحرها وفشلها جميعا كل في مكانه وزمانه , هي المبرر الوحيد الذي يتذرع به معارضو تطبيق شريعة الله في أرضه , وهي السبب الرئيسي في إحجام الأغلبية الصامتة المريدة لتطبيق الشريعة أو الغير ممانعة لذلك عن إعلان مطلبها كباقي قوى الشعب .
ولما كان الإسلام هو النظام الواجب التطبيق بأمر الله وبالنظر في التاريخ وبدارسة نظم الدنيا وبحثا عن المصلحة فإنه قد وجب مناقشة أمر تلك الجماعات وشرعية وجودها من الأصل ونوعية ممارساتهم الشاذة من منطلق شرعي وعقلي .
لأنه وببساطة إن كان وجودهم شرعيا أو ممارساتهم شرعية فإن الدين أو النظام الذي شرع ذلك يكون فاسدا بالكلية والعياذ بالله .
نعم هكذا دون مبالغة , فإما أنهم فاسدون ضالون مضلون هالكون بالكلية وهناك تطبيق آخر لشرع الله لا يعرفونه أو يعرفونه ويكتمونه
وإما أن يكون النموذج الإسلامي نموذجاً فاسدا لأنه يسمح لهذا الخبث أن يتواجد فيه وحاشا لله أن نتجرأ على القول بذلك أو التفكير فيه .
إذن وبهذا المنطق يكونون هم الفاسدين الهالكين , ولكن كيف وأي منطق هذا , كيف تحكم عليهم جميعا بالفساد , أليس في ذلك مبالغة وظلم , كيف وهم من يسيرون فينا بالمظهر الإسلامي والالتزام بالعبادات ويظهرون لنا الخلق الحسن أو كذلك يفعل بعضهم وهكذا يتصورون أنفسهم.
ولإثبات ذلك علينا انتهاج منهج شرعي يثبت من الكتاب والسنة على هؤلاء ما وصفناهم به من ضلال وفساد وأكثر من ذلك مما عليهم استخلاصه دون البوح به ويحجز للمصرين منهم على البقاء كأتباع لتلك الجماعات والفرق مقعدا في الجحيم في ظل شجرة الزقوم رغم صلاتهم وصيامهم ولو تفوقوا في ذلك .
وبداية لابد أن يكون هناك مفهوم واضح في عقولنا وهو مفهوم التوحيد والذي لما قامت تلك الجماعات لإقامته في مجتمعاتها نقضته في أنفسها.
وللتوضيح وباختصار فإن التوحيد هو أصل العقيدة وهو يعني توحيد الخالق وإذا ما كانت الأمة موحدة فإنها لابد وأن تكون موحدة , وذلك لان الإله الذي وحدته أعطى الموحدين أوامر ثابتة ونهاهم عن أمور بعينها أي وضع منهجا كاملا لا يمكن الاختلاف فيه لوضوحه .
فإذا التزمت الأمة بذلك المنهج ظلت موحدة موحده , وإن اختلفت في المنهج رغم وضوحه تفرقت وصار كل منهم يطبق ما يراه صحيحا أو ما أراد أن يراه صحيحا , وهنا فإن الأمة أو من يفعلون ذلك فيها تكون قد نقضت توحيد الخالق بنقضها توحيد جماعتها ومنهجها.
وهؤلاء الذين اختلفوا في الدين أو في تطبيق الدين من المنتمين إلى الجماعات الإسلامية لن تجد لهم إلا احد دافعين لا ثالث لهما , فإما أنهم اختلفوا عن جهل أو عن ظلم , فمن اختلف عن ظلم فإنه يعلم فساد منهجه ولكنه مفتون بالسلطة كزعيم لهؤلاء الجهال , أو يحاول الحفاظ على مصدر رزق يأتيه من هذه الجماعة أو تلك .
أما من اختلف عن جهل واتبع تلك الجماعات فقد رأي فيهم نموذجا إسلاميا في مجتمعات علمانية ولغيرته على دينه وتخبطه كباقي أفراد المجتمع بين النظم والسياسات فقد رأي في انضمامه إليهم نصرة للإسلام وتنفيذا لواجب شرعي بالسعي لتطبيق الشريعة ولما انضم إلى إحدى تلك الجماعات أروه و أقنعوه أن منهج جماعتهم أيا ما كانت هو المنهج الصحيح دون غيره من الجماعات , وأن الباقين كلهم ضالون سواء أكانوا إسلاميين أو علمانيين .
فصارت جماعتهم في نظره هي صحيح الإسلام وهي الفرقة الناجية دون غيرها من الفرق الضالة ذات المناهج الفاسدة , فعمل بمنهجهم وراح يجاهد في استقطاب الناس لهم وعادى من يعادون ووالى من يوالون , دون أن ينظر إلى فلسفتهم و تحالفاتهم ومصادر تمويلهم و لهؤلاء الذين اختلفوا وتفرقوا عن جهل تكتب تلك الكلمات , وعلى هؤلاء إن عادوا لصوابهم تقوم قائمة الأمة من جديد , لأنهم مخلصون في داخلهم ولم يريدوا إلا وجه الله فيما فعلوا .

كذلك فان علينا أن نفرق مبدئيا بين نوعين من الجماعات أو المتحزبين على أساس الدين , أولهما جماعات ذات هدف سليم ومنهج فاسد.
و ثانيهما جماعات ذات هدف فاسد و منهج فاسد .
أما النوع الثاني وهو الفاسد تماما والمرفوض كلية ويمثله المتصوفة والشيعة وغيرهم من اتباع الأولياء وعباد آل البيت وأصحاب الطرق الفاسدة والمخرفين في العقيدة والمبتدعين في العبادات .
وضلال هؤلاء ظاهر بين لكل ذي عقل , وحكمهم يقع بين الشرك بالله والردة وذلك لأنهم إما دعوا عبدا من دون الله أو أحدثوا في أمر المسلمين ما ليس منه .
وهؤلاء يمثلون واحدة من اكبر نقاط الضعف التي تؤتي منها الأمة , والتي تشوه العقيدة الغراء في نفوس الناس عامة وتستوجب من الله لعنة نزلت بنا ونحياها منذ قرون .
أما النوع الأول فهو يمثل الجماعات التي قامت يوم قامت على يد رجال نحسبهم مخلصين لإحياء دولة الإسلام في بلاد المسلمين ومنها الإخوان وأنصار السنة والسلفيون والتبليغ وغيرها .
وهذا الهدف في حد ذاته هو أسمى الأهداف التي قد يحيا الفرد والجماعة من أجلها وسبب خلق الإنسان من حيث المبدأ , ومعظم مؤسسي تلك الجماعات لو رأي حالهم اليوم لتبرأ منهم و لدعا عليهم بالهلاك لأن هؤلاء المؤسسين كانت غايتهم فيما فعلوا هي إقامة جماعة المسلمين في أزمنة تواري فيها الإسلام عن مجتمعاتنا.
تماما كما كان الأئمة الأربعة الشافعي وأبو حنيفة وأحمد ومالك هم خير رجال زمانهم وأعلم أهل الأرض بشريعة ربهم وسنة نبيهم ولكن من جاء بعدهم من المتشيعين لهم المنتمين لمذاهبهم هم من فرقوا بينهم واختلفوا على آرائهم وتحزبوا خلفها حتى نقضوا دينهم وخلعوا ربقة الإسلام من أعناقهم باختلافهم , حيث صار دين كل منهم هو مذهبه وما عداه فهو باطل مرفوض بالكلية ولو كان من الدين وهو من الدين .
ولاستجلاء الأمر يجب أولا مناقشة نشأتهم وأساليب عملهم ونقاط الاختلاف بينهم .
أما عن نشأتهم فهذه الجماعات أو بعضها حين قامت منذ عقود إنما قامت لتحكيم شريعة الله في أرضه كما ذكرنا , حيث نظر مؤسسوها كل في مكانه وزمانه إلى المجتمع الذي يعيش فيه والمجتمعات المحيطة به فرفضها جميعا لفسادها , وبالعقل ودراسة تاريخ الأمم وجد أن أمتنا لم تسد الأمم إلا بشريعة الله , ولم تصبح أحط وأحقر وأضعف الأمم إلا حينما تركت تلك الشريعة وتحاكمت إلى أهوائها , فراح يدرس تلك الشريعة ويقارنها بغيرها من النظم والمناهج الوضعية , فرأي الفارق واضحا عظيما بين التشريع الرباني والتشريع الإنساني من حيث الإحاطة والتفصيل والمثالية وبلوغ المصلحة الحقيقية للأمة .
هكذا وبكل بساطة عرف الحق الذي لا جدال فيه , ووجد أنه من واجبه تجاه ربه ونفسه وأمته هو وأتباعه ومن يستطيع أن يستقطب أن يعملوا على إقامة دين الله في أرضه , ولكن أين الطريق ؟!
بدأ كل منهم يفكر في الأسلوب الأنسب والأصلح في ظل الإمكانيات المتاحة والظروف المحيطة للوصول بالمجتمع إلى ذلك الهدف العظيم .
ولأنهم لم يكونوا مجتمعين في زمان واحد ومكان واحد , وعاصروا ظروفا مختلفة , وتعرضوا لضغوط متفاوتة , وعذابات من أنواع شتى , فقد رأي كل منهم الطريق إلى ذلك الهدف بشكل مختلف تبعا لما مر به من ظروف وما جاءه من علم وقدراته العقلية وهوى بعضهم .
فقد رأي بعضهم أن الطريق الأمثل لذلك هو تكثيف الدعوة في المجتمع وتبليغه بأوامر الدين ونواهيه رغم ضعف علمهم , فتنتشر بذلك تعاليم الإسلام بين أفراده ويزداد عدد المسلمين الفعليين في المجتمع حتى يصيروا أغلبية فيؤول الأمر إليهم , فراحوا يطرقون الأبواب ويبتدعون البدع ويدعون الناس بغير علم ويفتون بغير حق فضلوا وأضلوا .
ورأي بعضهم أن الله لن يمكن لنا في الأرض إلا إذا وصلنا إلى درجة الصحابة والتابعين أو اقل قليلا من الزهد والإيمان والتقوى , فأغلقوا عليهم أبواب مساجدهم وصوامعهم , وانعزلوا عن مجتمعاتهم , وتعاملوا مع الناس بتعال وتكبر على اعتبار انهم هم الصديقون وكل الناس رعاع منافقون , وراحوا يتسابقون في تقصير الثوب وإطالة اللحية وعدد مرات استخدام السواك.
وذهب بعضهم إلى تكفير المجتمع ككل ووجوب قتاله لفساد أهله حكاما ومحكومين , وأعلنوا الجهاد على الكوكب بأسره , فسكان الأرض إما يهود أو نصارى أو ملحدون أو مسلمون مرتدون !
هكذا رأوا العالم فراحوا يقتلون كل ما تطاله أيديهم , فكادوا للإسلام وأساءوا إليه أكثر مما يحب أعداؤه .
ورأي آخرون أن الطريق الأمثل يكون من خلال التوغل في المجتمع والسيطرة عليه من خلال زرع أتباعهم في كل الكيانات الهامة في الدولة كالنقابات المهنية والمجالس التشريعية والجامعات وغيرها , ودخلوا اللعبة السياسية طامعين في تغيير قواعدها والفوز فيها , فإذا بها هي التي تغير قواعدهم الشرعية , وتجبرهم على تغيير أفكارهم ومواقفهم وتقديم التنازلات تباعا ليظلوا داخل اللعبة , فصاروا طلاب سلطة لا إقامة دين , ورغم كل ذلك ما قبلهم باقي اللاعبين ولا جمهور المتفرجين !
و رأي آخرون ما رأوه , وجعلوا من رؤيتهم تلك منهجا لهم , فتعددت المناهج والأساليب وتراوحت بين التطرف والتفريط , وسمى كل منهم منهجه بالواجب المرحلي , أي ما يجب على كل مسلم فعله في هذه المرحلة الزمنية , وما دمت قد ألبست رؤيتك ثوب الواجب الشرعي فإن كل من خالفها يكون قد خالف الشرع , ومن لم يعمل بها فهو عدو للدين.
وهكذا تفرقوا واختلفوا , وعلى تلك الرؤى الشخصية كان اختلافهم , وبدافع المصلحة أو الجهل والغباء كان إصرارهم , وهكذا صار الدين مفرقا بين هؤلاء وهؤلاء , فقد أخذ كل منهم من الدين جزءا كان في نظره هو كامل الدين أو المناسب من الدين والأولى بالتطبيق في مرحلتنا , فأخذ هؤلاء الجهاد وصار حكرا عليهم , وأخذ أولئك الدعوة والأمر بالمعروف فصارت نصيبهم من الدين دون غيرهم , وأخذ غيرهم العلم والفقه طريقا فملئوا العقول بالأحكام والمنظومات وظلت قلوبهم فارغة , واخذ آخرون من الدين ما يتعلق بالحكم والسياسة , فراحوا يتشعبون في مؤسسات الدولة دون غيرهم بغية السيطرة على الحكم , واخذ آخرون من الدين المكفرات ونواقض الإسلام والإيمان وأسقطها على المجتمع فرآه مرتدا بالكلية فهجره أو قاتله .
ثم تفنن كل منهم في رفض رؤية الآخرين وتفنيدها , فرفض بذلك كل الدين إلا الجزء الذي هو نصيبه , وذلك لأن الباقين لديهم باقي أجزاء الدين التي رفضها .

وهكذا قالوا جميعا أن هذا الزمان ليس زمان الجهاد إلا أتباع الفكر الجهادى .
وقالوا جميعا أن المشاركة في مؤسسات الحكومات الحالية من برلمان ونقابات وغيرها تحرم شرعا إلا فرقة واحدة , والتي رأت أن ذلك هو السبيل للسيطرة على الحكم , وهكذا قام كل منهم برفض كل الدين إلا جزأه .
وهكذا صارت جماعة أو مذهب كل منهم هي دينه من دون الإسلام , وإلهه ومعبوده الذى يشرع له , وهكذا تجزأ الدين وتفتت وتفرق على هؤلاء المحاربين لله ورسوله سواء أعلموا ذلك أم لم يعلموا , والمناهضين لتحكيم الشريعة وإن تشدقوا بأن هذا هو مطلبهم الأساسي وسبب وجودهم .
ولو أنهم اجتمعوا كما أراد الله وقبل بعضهم بعضا لتجمعت أجزاء الدين المتناثرة وقامت قائمته من جديد , لأن الدين لا يقوم ولا يكون أصلا على أحد أجزائه دون غيره مهما بلغت أهمية هذا الجزء .
ولا تقوم دولة الإسلام أبدا إلا باجتماع كل تلك الفرق أو استئصالها , فالأمة تحتاج إلى من يجاهد عدوها المعتدي , وإلى من يستطيعون سياسة أمورها , وإدارة شئونها , ولا تستغني عن الآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر , ولا يستقيم حالها إلا بوجود علماء يرشدونها إلى المصلحة من خلال الشرع .
وغياب أي من هؤلاء عن الباقين كفيل بسقوط الأمة , فلو لم يكن للأمة مجاهدون يدافعون عنها ويقاتلون عدوها لاستباح أعداؤنا دماءنا وأعراضنا و لضاعت الأمة , ولو لم يكن هناك من يستطيع سياسة أمور الأمة وإدارة شئونها لتخبطت ولضاعت مواردها ونهبت من الخارج والداخل , ولطمع فينا أعداؤنا فضعنا وضاعت الأمة .
ولو غاب عن الأمة الآمرون بالمعروف الناهون عن المنكر لتآكل الدين في نفوس الناس , واستصغروا كبائر الذنوب واستكبروا صغائر الطاعات .
ولو لم يوجد بالأمة علماء وفقهاء مخلصون مفكرون مجتهدون , لفتح الباب أمام المبتدعين و الجهال , و لعادت الأمة قرونا للوراء .
فماذا يكون الحال إذا ما كانت كل هذه الفرق وغيرها ممن لم نذكرهم متقاتلة متناحرة يكيد بعضها لبعض ويبغض بعضها بعضا ؟
أتبقى في هذا الحال أمة ؟!
بالطبع لا وهذا هو ما حدث , انهار بنيان الأمة وسقطت رايتها وتداعي عليها أعداؤها وقهرت في أرضها , وما كان ذلك عن قلة أو ضعف , وإنما كان عن فرقة واختلاف , حتى صارت تلك الجماعات أو بعضها تتحالف مع قوى خارجية ربما كانت تعاديها ظاهريا لتكون لها الغلبة والتميز على باقي الجماعات !
وهكذا تجزأت الأمة الإسلامية إلى أوطان بحدود سياسية وضعها الاستعمار القديم بتواطؤ حكام خائنين , ثم تجزأت الأوطان المرسومة من قبل الأعداء كل في داخله إلى جماعات وأحزاب , وراحت تتوالد وتتكاثر فالأمر مسموح به للجميع , فما دمنا في حالة اختلاف وهناك عشرات الرؤى والجماعات فلم لا تكون لي رؤيتي وجماعتي ؟! وهكذا ابتدع أراذلنا عبر الزمان الطرق والمذاهب وراحوا يحشدون الناس خلفها , وهكذا يظهر جليا أن هذه الفرق وما أحدثته من حالة فرقة واختلاف هي سبب ضياع الدين في الأمة , إلا أنني أوقن أن هناك من لا يزال مصرا على موقفه ويسفه كلامنا ويستهزئ به , فهم أهل جدل وكلام .
ولهذا نستخرج من الكتاب والسنة الأدلة القاطعة والبراهين الدامغة على ما اتهمناهم به وأكثر , ليفهم من شاء أن يفهم , ويعلم من لم يكن يعلم , وتكون حجة عليهم أمام الله يوم القيامة , يوم ينبئهم بما كانوا فيه يختلفون , حجة لا تدع مجالا لمكذب أو مجادل إلا من يجحد بآيات الله التي جاء بها سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم كما جحد بها المشركون في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم .
فإذا قال رب العالمين : (شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاء وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ ، وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى لَّقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِن بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ ، فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ ) الشورى 13-15
ولو لم يكن هناك بالكتاب والسنة غير هذه الآيات لكانت هي الكافية الجامعة القاطعة , فمنها يثبت أن دين الرسل جميعا واحد , حيث بدأ الله تعالى بأول الرسل وهو نوح ثم محمد صلى الله عليه وسلم وهو آخر الرسل ، ثم مر بمن بينهما من رسل وهم إبراهيم وموسى وعيسى , فما هو الذي شرعه لنا رب العالمين من عهد نوح عليه السلام إلى عهد سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ؟
ويأتي جواب ربنا (أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيه ) وهذا أمر الله لنا ولمن سبقنا من الأمم , أن نقيم الدين في حياتنا بتنفيذ أحكامه وألا نتفرق فيه , وفي ذلك أمر بالجماعة و الائتلاف ونهي عن الفرقة والاختلاف , ثم يبين رب العالمين لنا من من الناس يصعب عليه الانصياع لهذا الأمر أو التشريع بقوله تعالى : (كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْه ) , وفي هذا خطر عظيم على أتباع تلك الجماعات , ثم يخبرنا أنه تعالى يجتبي إليه من يشاء أي يختار , فالاجتباء اختيار , ولكنه يهدي إليه من ينيب أي من أراد الهداية , الذي يعود إلى الله إذا أخطأ , ويتبع الحق حيثما وجده وليس أسيرا لفكر أو مذهب أو إمام إن هلك أهلكه معه , ثم يخبرنا رب العالمين أن الذين تفرقوا ما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم , وما كانت تلك الفرقة والاختلاف إلا بغيا بينهم , أي أنها ليست من العلم الذي جاءهم , ثم يخبرنا انه لولا أننا في اختبار له مدة لا يعلمها إلا الله يبعثنا بعدها ليحاسبنا على ما فعلنا في حياتنا الدنيا لقضي بين هؤلاء المتفرقين المختلفين .
ثم يأمر رسوله صلى الله عليه وسلم ومن اتبعه أن يدعو لذلك الأمر وهو إقامة الدين وعدم التفرق فيه وأن يستقيم كما أمر ولا يتبع أهواءهم , , فهذا هو الأصل والرسالة والدين الذي شرعه الله للناس على مر العصور , هذا هو واجب الإنسان على وجه الأرض و أساس حسابه يوم القيامة إقامة الدين وعدم التفرق فيه .
ويقول رب العزة (وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ، مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ) الروم 31-32
والآية خطيرة وتضع حكما مرعبا للذين فرقوا دينهم وكانوا جماعات أو أحزابا , كل منها يظن أنه على الحق ويفرح بما عنده و ينكر ما عند الآخرين ولو كان من الدين .
فإن قلت لي لا تكن من الأغبياء الذين يفعلون كذا , فإن أنا فعلت ذلك الفعل الذي نهيتني عنه أكن من الأغبياء , فإن قلت لي مثلا لا تكن من المقصرين الذين ينامون عن صلاة الفجر ثم نمت عنها فأنا ولابد من المقصرين .
ولله المثل الأعلى , فقد نهانا أن نكون من المشركين الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا وعلى ذلك فإن من يفعل منا ذلك أي يتفرق في الدين ويتشيع ويختلف صار من المشركين .
ويقول الله عز وجل : ( وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُون ، فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) المؤمنون ( 52- 53 )
فنفهم من الآية أن أمتنا أي امة التوحيد هي أمة واحدة , لها مواصفات ثابتة حددها رب العالمين , ولكنهم تفرقوا وقطعوا أمرهم ودينهم بينهم إلى ملل و مناهج هي في الأصل من الدين , وفرح كل منهم بما لديه وما هو عليه .
وقوله تعالى : (وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) آل عمران 105
وقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ ) الأنعام 109
وقد روي أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الآية أن الذين فرقوا دينهم هم أهل البدع والشبهات وأهل الضلالة من هذه الأمة , وعنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ الآية هكذا ( إن الذين فارقوا دينهم ) , وكان على كرم الله وجهه يقول: والله ما فرقوه ولكن فارقوه يقصد الدين .
أبعد كل هذه الآيات الواضحة المخيفة يبقى لأتباع تلك الجماعات أي مبرر أو عذر للبقاء على حالهم ، فلربما قال أحدهم أن هذه الآيات تخص اليهود و النصارى الذين اختلفوا في كتبهم ولا تخصنا ، ورغم وضوح الآيات ووضوح خطا ذلك القول إلا أننا نسرد أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لندحض بها تلك الشبهة ونفهم من خلالها الآيات بشكل أوضح .
فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (لَتَتْبعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ شِبْرًا شِبْرًا وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ تَبِعْتُمُوهُمْ قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى قَالَ فَمَنْ) البخاري ومسلم ...
وقال صلى الله عليه سلم :(َ افْتَرَقَتِ الْيَهُودُ عَلَى إِحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً فَوَاحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ وَسَبْعُونَ فِي النَّارِ وَافْتَرَقَتِ النَّصَارَى عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً فَإِحْدَى وَسَبْعُونَ فِي النَّارِ وَوَاحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَتَفْتَرِقَنَّ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً وَاحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ وَثِنْتَانِ وَسَبْعُونَ فِي النَّارِ قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ هُمْ قَالَ الْجَمَاعَةُ ) ابن ماجة وأبو داوود و الترمذي .
وقال صلى الله عليه وسلم : (َ أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَفْضَلَ مِنْ دَرَجَةِ الصِّيَامِ وَالصَّلَاةِ وَالصَّدَقَةِ قَالُوا بَلَى قَالَ صَلَاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ فَإِنَّ فَسَادَ ذَاتِ الْبَيْنِ هِيَ الْحَالِقَةُ لَا أَقُولُ تَحْلِقُ الشَّعَرَ وَلَكِنْ تَحْلِقُ الدِّينَ ) أبو داوود و الترمذي وأحمد .
وقال صلى الله عليه وسلم : (َ إِنَّ اللَّهَ زَوَى لِيَ الْأَرْضَ فَرَأَيْتُ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا وَإِنَّ أُمَّتِي سَيَبْلُغُ مُلْكُهَا مَا زُوِيَ لِي مِنْهَا وَأُعْطِيتُ الْكَنْزَيْنِ الْأَحْمَرَ وَالْأَبْيَضَ وَإِنِّي سَأَلْتُ رَبِّي لِأُمَّتِي أَنْ لَا يُهْلِكَهَا بِسَنَةٍ عَامَّةٍ وَأَنْ لَا يُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ سِوَى أَنْفُسِهِمْ فَيَسْتَبِيحَ بَيْضَتَهُمْ وَإِنَّ رَبِّي قَالَ يَا مُحَمَّدُ إِنِّي إِذَا قَضَيْتُ قَضَاءً فَإِنَّهُ لَا يُرَدُّ وَإِنِّي أَعْطَيْتُكَ لِأُمَّتِكَ أَنْ لَا أُهْلِكَهُمْ بِسَنَةٍ عَامَّةٍ وَأَنْ لَا أُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ سِوَى أَنْفُسِهِمْ يَسْتَبِيحُ بَيْضَتَهُمْ وَلَوِ اجْتَمَعَ عَلَيْهِمْ مَنْ بِأَقْطَارِهَا أَوْ قَالَ مَنْ بَيْنَ أَقْطَارِهَا حَتَّى يَكُونَ بَعْضُهُمْ يُهْلِكُ بَعْضًا وَيَسْبِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا) مسلم والترمذي وأبو داوود وأحمد .
وعن عبد الله بن عمرو قال ( هَجَّرْتُ – أي بكرت- إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا قَالَ فَسَمِعَ أَصْوَاتَ رَجُلَيْنِ اخْتَلَفَا فِي آيَةٍ فَخَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْرَفُ فِي وَجْهِهِ الْغَضَبُ فَقَالَ إِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِاخْتِلَافِهِمْ فِي الْكِتَابِ ) مسلم و أحمد .
وعن عبد الله بن مسعود قال ( سَمِعْتُ رَجُلًا قَرَأَ آيَةً وَسَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ خِلَافَهَا فَجِئْتُ بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرْتُهُ فَعَرَفْتُ فِي وَجْهِهِ الْكَرَاهِيَةَ وَقَالَ كِلَاكُمَا مُحْسِنٌ وَلَا تَخْتَلِفُوا فَإِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمُ اخْتَلَفُوا فَهَلَكُوا ) البخاري .
ومن الأحاديث الواضحة التي ذكرناها نفهم أن الرسول صلى الله عليه وسلم ينبئنا بأننا سنفعل مثلما فعل اليهود والنصارى تماما فنستخدم نظمهم ونخطئ نفس أخطائهم حتى إذا ما أقدموا على فعل شيء فيه هلاكهم فعلنا مثلهم .
فكما اختلفوا وتفرقوا إلى اثنتين وسبعين ملة فإن أمتنا ستختلف وتتفرق على ثلاث وسبعين , كلها في النار مع فرق اليهود والنصارى إلا واحدة فقط وهي القائمة بكامل الدين كما كان الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
ويوضح الحديث الثالث سبب سقوط تلك الفرق المنتمية للأمة في النار , ألا وهو تفرقها وفساد ذات بينها والتي حلقت دينها وأخرجتها من الإسلام , بل ويشير إلى أن صلاح ذات البين والذي لا يكون إلا بإقامة الجماعة وعدم التفرق هو عمل أفضل من الصلاة والصيام وسائر الأعمال العظام .
ويشير الحديث الرابع إلى نفس المعنى وبشكل أوضح , فهو يأمر مباشرة بالجماعة والسمع والطاعة , ويقول صراحة أنه من فارق الجماعة قيد شبر أي مهما كان اختلافه بسيطا فقد نقض بذلك إسلامه و خرج من الدين .
ومن الحديث الخامس نعلم أن الله قد وعدنا ألا يهلكنا بسنة عامة ,وألا يسلط علينا عدوا خارجيا فيتمكن منا ويقهرنا , ولو اجتمع علينا أهل الأرض جميعا , ولكنه لم يعصمنا من الاختلاف والتفرق فيما بيننا حتى ولو وصل الأمر إلى الاقتتال وإهلاك بعضنا بعضا .
ومن الحديثين السادس والسابع تظهر كراهية الرسول صلى الله عليه وسلم الشديدة للاختلاف ونهيه القاطع عنه .
ومن تشدق من أتباع الجماعات بأنه هو وجماعته لا يندرجون تحت هذه الأحاديث ولا ينطبق عليه حديث الفرق , فهو كاذب مجادل جاحد ولا يمكنه إثبات ذلك بأي وسيلة , أللهم إلا عن طريق أقوال شيوخه المضلة والتي تطمئنه إلى أن جماعته هي الفرقة الناجية الوحيدة , وأن الباقين هم الفرق الهالكة , وهكذا رأت كل جماعة نفسها شعب الله المختار كما يرى اليهود أنفسهم رغم ضلالهم .
ولهذا نذكر جزءا من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية عله يحمل الشفاء
فيقول ابن تيمية : ( واعلم أن أكثر الاختلاف بين الأمة الذي يورث الأهواء تجده من هذا الضرب , وهو أن يكون كل واحد من المختلفين مصيبا فيما يثبته أو في بعضه مخطئا في نفي ما عليه الآخر .
فإن أكثر الجهل إنما يقع في النفي الذي هو الجحود والتكذيب لا في الإثبات , لأن إحاطة الإنسان بما يثبته أيسر من إحاطتة بما ينفيه .
فباب الفساد الذي وقع في هذه الأمة هو التفرق والاختلاف , وبلاد الشرق من أسباب تسليط الله التتر عليها كثرة التفرق والفتن بينهم في المذاهب وغيرها حتى تجد المنتسب إلى الشافعي يتعصب لمذهبه على مذهب أبي حنيفة حتى يخرج عن الدين والمنتسب إلى أبي حنيفة يتعصب لمذهبه على مذهب الشافعي وغيره حتى يخرج من الدين , والمنتسب إلى احمد يتعصب لمذهبه على مذهب هذا أو هذا , وكل هذا من التفرق والاختلاف الذي نهي الله ورسوله عنه , وكل هؤلاء المتعصبين بالباطل المتبعين الظن وما تهوى الأنفس , المتبعين لأهوائهم بغير هدي من الله مستحقون للذم والعقاب .
فإن الاعتصام بالجماعة والائتلاف من أصول الدين , والفرع المتنازع فيه من الفروع الخفية فكيف يقدح في الأصل بحفظ الفرع ؟!) .

وبعد هذا الكلام الثمين لشيخ الإسلام ابن تيمية لا يسعنا إلا أن نذكر من يرى فى جماعته أو مذهبه الأفضلية , بأنه يسوغ ترك الأفضل لتأليف القلوب , مثلما ترك النبي صلى الله عليه وسلم إعادة بناء البيت الحرام على قواعد إبراهيم عليه السلام لأن أهل قريش كانوا حديثي عهد بالجاهلية وخشي تنفيرهم بذلك , ورأى أن مصلحة الاجتماع والائتلاف مقدمة على مصلحة البناء على قواعد إبراهيم عليه السلام .
أفبعد هذه الآيات القرآنية والأحاديث النبوية وكلام شيخ الإسلام ابن تيمية , هل يبقى أتباع لهذه الجماعات إلا المتكبرين الجاحدين ؟!

نظرة تاريخية ومعاصرة على الفرق الإسلامية :

وللإمعان في الاستدلال على بغي هذه الجماعات وفشلها نلقي نظرة عليها عبر التاريخ وفي الوقت الحالي , لنتأكد من أنه لم يكن لأحدها أبدا في الإسلام يد تبني , وإنما كان لها جمعيا وبلا استثناء وعبر التاريخ الإسلامي القديم و الحديث معاول أكبر وأشد من معاول أعداءنا , هدمت بها بنيان الإسلام وخرقت سفينة الأمة من مكانها .
ولتكن البداية بالتاريخ الحديث حيث تتطابق نقطة البداية فيه أيا ما كانت مع نقطة النهاية وهي حالنا الآن , والاثنتان تمثلان ضياعا للأمة وعلى أيدى هؤلاء .
فلننظر مثلا إلى الكارثة الفلسطينية المستمرة عبر التاريخ وفي موضع واحد من المشهد , حيث يمثل هذا الموضع سبب استمرارها حتى الآن وعدم القدرة على تخيل إمكانية حل مستقبلي .
وما نقصده هنا هو مدى صلابة جبهتها وائتلاف جماعتها أمام عدوها , ولو بحثنا الأمر لما وجدنا لها جبهة ولا جماعة أصلا وإنما فرق وجماعات مختلفة متنافرة متناحرة وأحيانا كثيرة متقاتلة , على الرغم من وجود عدو صريح محتل يضع خنجره في ظهورهم جميعا , ولكن اختلافهم و فرقتهم المبنية على المصالح الخاصة قد أعمت أعينهم و أذهبت عقولهم و طمست على قلوبهم .
وأنا أفهم أن يختلف الإسلاميون مع العلمانيين , وأفهم أن يختلف العلمانيون في داخلهم ويتفرقوا إلى عشرات الرؤى والأحزاب , ولكني لا أفهم أن يختلف المسلمون فيما بينهم ويتفرقوا خلف الرايات والقادة وهم في أرض المعركة , حيث يذبح أبناؤهم ونساؤهم ويمنعون من حقوق الحيوان لا الإنسان !
فأي دافع يستحق أن يدفع إلى هذه الحالة , ما الذي يمنعهم -الإسلاميين على الأقل- من توحيد جبهتهم وإقامة جماعتهم واختيار رجل منهم يكون له الأمر والنهي فيهم جميعا وعليه مشاورتهم في الأمر , فما بين حماس والجهاد الإسلامي وغيره من الجماعات والأسماء التي تدعي الإسلام ضاع الإسلام والمسلمون ومسرى الرسول صلى الله عليه و سلم والأرض المباركة .
فما الذي منع تلك الجماعات الإسلامية من تجميع قواها وتوحيد صفوفها إلا عبادتها للجماعة من دون الله , واتباع رؤية قادتها بدلا من سنة رسول الله وان ادعوا أنها منها.
ولن يكون هناك حل ولن يتحسن الحال أبدا بل سيزداد سوءا إذا ظلوا على فرقتهم واختلافهم وتناحرهم لصالح العدو , إلى أن يقيموا جماعتهم .

ولو ابتعدنا قليلا وذهبنا إلى أفغانستان مثلا لوجدنا مثالا أوضح يبين تأثير الفرقة والاختلاف الرهيب والمباشر والسريع على الأمة .
حيث يبدأ المشهد بدولة فقيرة محتلة من قبل أحد قطبي العالم في ذاك الوقت والقوة المكافئة لقوة الولايات المتحدة وهو الاتحاد السوفيتي
فقام أهل هذا البلد واجتمعوا ووحدوا صفوفهم رغم اختلاف أعراقهم ومذاهبهم , فأقاموا بذلك جماعتهم فنصرهم الله على عدوهم المرعب , وخرج من بلادهم ذليلا مهزوما فكانوا بذلك أحد أكبر أسباب انهيار ذلك القطب القوي واختفائه من خريطة العالم .
ولما خرج هذا العدو عاد أمرهم في أيديهم , وهنا وقعت الفاجعة , من يحكم البلاد؟ فاختلفوا وتفرقوا فيما بينهم فصار الجيش المنتصر بالأمس جيوشا صغيرة تتقاتل على الحكم تحت مبررات عرقية ومذهبية , فأفنى ذلك الجيش نفسه بنفسه بعد انتصاره , وآل الأمر إلى حركة طالبان والقاعدة والتي تمثل بحكمها الذي ادعت أنه إسلامي أكبر إساءة للإسلام والمسلمين , وبدأ بذلك حكم الفرقة , فبداية عادت بالمجتمع إلى القرون الوسطى , وحبست النساء ومنعت تعليمهن , ورفضت كل ما هو جديد على اعتبار انه بدعة , وراحوا يكفرون المسلمين نظما وشعوبا , وما إلى ذلك مما مال إليه هواهم فجعلوه هو الدين , ثم وبعد بضعة سنوات من فرض سيطرتها على الأرض رأت أن تهدم تماثيل أثرية لبوذا تمثل تراثا إنسانيا وحضاريا على اعتبار أن وجودها حرام !
وراحت تقايض العالم مستغلة الاستنكار العالمي لقرارها فإما أن تعطونا المعونات لشعبنا الفقير الذي يتضور جوعا وإما سنهدم التماثيل , ثم هدموها لما لم يعطهم احد شيئا!
وهنا نسأل ... إذا كان هدم التماثيل واجبا شرعيا فلم لم يهدموها بمجرد فرض سيطرتهم على البلاد ؟ لم تركوها كل هذه السنين ؟! ولم تقايضون عليها؟
أفلو أعطوكم ما تريدون أكنتم تسكتون عن تنفيذ الواجب الشرعي الذي تقولون به أم كنتم ستأخذون العطايا ثم تخونون وعدكم وتهدمونها ؟!
وهل هؤلاء أفضل من أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه و قائد جيشه عمرو بن العاص والصحابة ممن كانوا معه في جيشه الذي فتح به مصر؟!
فقد فتح هؤلاء مصر التي تحتوي ثلثي آثار العالم وبها تماثيل أبي الهول وفرعون الذي كان يدعي الألوهية ويعبد من دون الله وكان ذلك في خلافه عمر رضي الله عنه فما أمر عمر أو أحد قادة الجيش بهدم تمثال , وما استنكر رجل من المسلمين تركها دون هدم .
فهل أتي لهؤلاء من العلم ما لم يكن يعلمه صحابة رسول الله ؟! فانظر كيف يكون الافتراء على الله ورسوله والعبث بالدين وتوظيفه لمصالحهم بأبشع الطرق .
ولم يقف الأمر عند ذلك بل خرج منهم ذلك الشبح المسمي بتنظيم القاعدة وقرر أن يضرب أمريكا في عقر دارها , فاختطف الطائرات وضرب الأبراج ووزارة الدفاع مدعيا أن ذلك جهاد في سبيل الله , فكيف يكون جهاد في سبيل الله بما نهي عنه الله ؟!!
فأن صح جهاد هؤلاء تصح صلاة من توضأ بالخمر , وذلك لأنهم لم يقترفوا محرما واحدا وإنما العملية كلها كانت مكتظة بالمحرمات .
فإذا علمنا أن الله تعالى قال : (وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ ) البقرة 190
ولم تكن أمريكا قد اعتدت بعد على ديار المسلمين ولا عليهم مباشرة , بل كانت مصدر تمويلهم وتدريبهم فإنه وبأمر الله لا يجوز قتالها , وان كان مبررهم هو مساندتها لإسرائيل فلماذا لم يضربوا إسرائيل مباشرة وهي الأقرب والأضعف؟!
وثانيا فمن المعلوم أن قتل الغير مقاتلين والنساء والأطفال والشيوخ منهي عنه وليس فيه نقاش وذلك لأن المسلمين حين يقاتلون إنما يقاتلون لتدعيم القيم فيكون فى قتالهم دعوة للإسلام من خلال اعتمادهم على مبادئ ومثل عليا حتى في القتال .
فماذا فعل الآلاف من المدنيين الموجودين ببرجي التجارة وعلى الطائرات المختطفة هل كانوا محاربين !
وثالثا فمن المعلوم لدى القائمين بتلك العملية أن هناك المئات من المسلمين الذين يعملون في تلك الأبراج , وبضربهم للأبراج في وقت العمل يكون قتل هؤلاء أمر مؤكد , أي أننا دخلنا في جريمة عظيمة وهي قتل المسلمين عمدا , وبالطبع فإن المبرر الذي سيدفعون به هو أن هؤلاء مسلمون مرتدون أو علمانيون , فهل كشفوا عن قلوبهم شخصا شخصا , هل راقبوهم في حياتهم الخاصة فعلموا أنهم جميعا لا يصلون مثلا , أي دليل لديهم على فساد هؤلاء ؟!
وانظر إلى عظمة الخالق سبحانه الذي يعلم حال الدنيا إلى يوم القيامة , فأنزل في كتابه ما يوضح كل شيء ويفصله ليظهر ضلال هؤلاء وأمثالهم فلا تثبت لهم حجة , يقول رب العالمين :( وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطئا) النساء 92 ,93
ثم يبين رب العالمين كيفية التصرف في حالات القتل الخطأ .
ثم يتوعد من يقتل مؤمنا متعمدا بقوله ( ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جنهم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما )
ثم يقول العليم الخبير لأمثال هؤلاء ممن يقتلون المؤمنين عمدا ثم ينكرون ذلك بنفي الإيمان عنهم : ( يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا تبتغون عرض الحياة الدنيا فعند الله مغانم كثيرة كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم فتبينوا إن الله كان بما تعملون خبيرا )
وفي الآية تحذير وأمر للمؤمنين إذا خرجوا مجاهدين في سبيل الله أن يتبينوا من يقتلون ويقاتلون , ثم يحذرهم أن ينفوا الإيمان عمن أظهره لهم فيبطشوا به , ثم يظهر دافعهم في فعل ذلك وهو ابتغاؤهم عرض الحياة الدنيا , أي أنه ليس في سبيل الله , ثم يذكرهم بأنهم كانوا كذلك من قبل أي في نفس الدرجة الأقل من الالتزام والإيمان , ثم يلزمهم مجددا بأن يتبينوا مذكرا إياهم بأنه خبير بما يعملون , أي يعرف دوافعهم وأهدافهم الحقيقية من وراء فعلهم .
وقوله صلى الله عليه وسلم : ( المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه ) وتوبيخه الشديد لرجال فى سرايا أرسلها , لقتلهم من شهد أن لا اله إلا الله ولو ادعاء أو تقية أو حفاظا على أمواله وتبرؤه صلى الله عليه و سلم من فعلتهم تلك .
أما رابعا وأخيرا فهو ظنهم أن قتل المسلم لنفسه ليقتل أعداءه هو شهادة في سبيل الله , وهو ما يدعونه بالعمليات الاستشهادية وهي بعيدة كل البعد عن الاستشهاد والله أعلى و أعلم , فواجب المسلم هو الجهاد بكل طاقاته في سبيل الله والاستعداد التام لبذل الروح إعلاء لكلمة الله , وفي ذات الوقت عليه أن يتبع كافة السبل الممكنة لحفظ حياته لأن استمرار حياته يعني استمرار جهاده ودفع أعدائه .
أي أن عليه أن يوازن بين البسالة والإقدام واستعداده للتضحية وطلبه للشهادة من جهة , وبين حفظه لحياته واتباعه كافة السبل المؤدية لذلك من جهة لأن الشهادة منحة عظيمة وعطية من الله يعطيها لمن يختاره لا لمن ينتزعها .
فإذا ما أصابه شيء وهو على هذا الحال فقتل فهو شهيد بأذن ربه الذي اختاره للفردوس الأعلى , أما أن يخرج رجل يلبس حزاما ناسفا أو يركب سيارة مفخخة أو يقود طائرة ليستخدمها كصاروخ أو غيره , فيحدد ساعة موته أو استشهاده كما يزعم بالدقيقة والثانية فيفجر نفسه (ولو كان ذلك وسط أعداء محاربين فقط) ويقال أن ذلك شهيد فكيف ؟ أين هو من قول الله تعالى ( ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما )
وقوله تعالى ( ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة )
ألا يظهر من الآيات أن فعلته تلك منهي عنها , ثم وبالبحث في التاريخ الإسلامي فلن نجد حالة واحدة لجهاد فيه يقين حتمي بالموت , أي أن تاريخ الأمة بما فيه من فتوحات عظيمة ومعارك فاصلة خال من أي حالة مشابهه , فأنت إن أشهرت سيفك أمام سيوف ألف مقاتل فانك لا توقن بالموت , وإن بدا للعقول أن ألف رجل لابد وأن يغلبوا رجلا واحدا , فربما نصرك لله عليهم وهو قادر على أكثر من ذلك , وربما قرروا هم ألا يقتلوك بصرف الله قلوبهم عن ذلك , وربما ظهر من يقاتل إلى جانبك ويشد من أزرك , وربما حدثت كارثة طبيعية بقدر الله فأهلكتهم جميعا وأبقتك حيا , وربما و ربما ..... وهكذا كان حال المسلمين الأوائل ممن فقهوا مقاصد الدين , فكانوا يخوضون الأهوال غير آبهين بما يلقونه , طالبين للنصر محافظين على حياتهم آملين في الشهادة كمنحة تمنح ولا تؤخذ بقرار شخصي , ففضل الله لا ينتزع وإنما تتبع الأسباب التي حددها الله للوصول إلى ذلك الفضل وتنتظر النتيجة , فإما منحت هذا الفضل أو منعته لسبب ما .
وللاستدلال على ما سبق نذكر حديث الرسول صلى الله عليه وسلم (مَنْ سَأَلَ اللَّهَ الشَّهَادَةَ بِصِدْقٍ مِنْ قَلْبِهِ بَلَّغَهُ اللَّهُ مَنَازِلَ الشُّهَدَاءِ وَإِنْ مَاتَ عَلَى فِرَاشِهِ ) ابن ماجة والنسائي والترمذي .
وكذلك قصة الرجل الذي كان يقاتل في صفوف المسلمين ووجد مقتولا بعد المعركة , فقال الصحابة أنه شهيد في الجنة ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم أنكر ذلك وأخبر أنه فى النار لأنه لما جرح في المعركة نحر نفسه , ناهيك عن أن قتل النفس في الأصل هو انتحار , أي أن قاتل نفسه في أي حال وبأي وسيلة ولأي هدف هو منتحر , والمنتحر في النار ولا شك , ولا يعرف في التشريع الإسلامي أي حالة مستثناة من ذلك يحل فيها قتل النفس .
والغريب في الأمر والمضحك المبكى أن حجة هؤلاء في فعل هذا و تبريرهم الشرعي لذلك السلوك التعبدي الشاذ يقتصر على قصة الغلام الذى قتله الملك فى قصة أصحاب الأخدود و خلاصتها أن الغلام المؤمن صرح للملك المتأله أنه لا إله إلا الله , وهو الذي خلقه و خلق الملك وخلق كل شيء وهو الأحق بالعبادة , فقرر الملك قتله ولكنه لم يستطع ذلك عبر محاولات عديدة منها الرمي من قمة الجبل والإغراق وغيرها , فقال الغلام للملك أتريد أن تقتلني ؟ قال نعم , قال لن تستطيع ذلك إلا أن تفعل ما سأخبرك به , قال ماذا ؟ قال الغلام أجمع الناس وصوب إلى سهمك وقل باسم الله رب الغلام ثم أطلقه فيصيبني فأموت
وأمام أعين الناس التى كانت هى هدف الغلام بأمر ربه فعل الملك ما قاله الغلام وأطلق السهم فأصاب الغلام فمات , فعلم الناس أن الغلام على حق وأنه هناك إله أعلى وأجل , لأن كل محاولات قتل الغلام باءت بالفشل وكل الأسهم لم تصبه إلا السهم الذي أطلق باسم الله , فآمن الناس بالله رب الغلام , إلى آخر القصة , وهم يستشهدون بتلك القصة التي وقعت قبل الإسلام بمئات السنين ويتخذون منها دليلا على صحة ما يفعلون !
ومن يستدل بذلك يمكنه أن يستدل بقصة الخضر مع موسى عليهما السلام الواردة في سورة الكهف ويروح يقتل كل صبي يقابله إن خشي أن يرهق أبويه الصالحين !
فيا أصحاب العقول والألباب إن الغلام كان كالخضر , فكلاهما مأمور من الله وذلك ما قاله الخصر ( وما فعلته عن أمري ) أي لم افعل ذلك بإرادتى وهواي , وإنما هو أمر الله , وكذلك الغلام فإنه كان مأمورا من الله , والقصة كلها عبارة عن معجزة ومجموعة خوارق للطبيعة , والمعجزات والخوارق لا تقنن , فمحاولات القتل المتتالية والفاشلة ونجاة الغلام منها جميعا وحدوث الإصابة القاتلة والتي ما كانت إلا بالسهم الذي ذكر اسم الله عليه لتكون معجزة للناس ليؤمنوا بها , فما الذي أدري الغلام بأنه مقتول بهذا السهم وما الذي دعاه أن يطلب من الملك أن يجمع الناس إلا أن يكون مأمورا من الله معلما بمجريات الأحداث , هذا بالإضافة إلى أن الغلام لم يكن هو قاتل نفسه , فلم يكن السلاح معه ولم يفجر نفسه أو ينحرها , ومن قال بأنه لم يكن مأمورا من الله عالما بمجريات الإحداث إذن فإنه كان يقوم بمحاولة ربما نجحت أو فشلت , أي إنه لم يكن موقنا بالموت أيضا .
والاعتماد على تلك القصة التي فندناها يدلل على ضعف دليل هؤلاء وابتداعهم وإصرارهم على تنفيذ أوامر الله تبعا لهواهم ووفق ما تشتهي أنفسهم , فيغررون بشباب مؤمن غيور على دينه يبحث عن وسيلة أو ربع فرصة يخرج بها من سلبيته وينصر بها دينه , فيصورون له أنهم سيرسلونه إلى الجنة بأسرع الطرق ليرافق سيدنا محمدا صلى الله عليه وسلم وصحبه , والله أعلم بمثوى المرسل و المرسل .
والحديث هنا لا يقتصر على تلك الفرقة الضالة التي نناقشها وإنما يمتد ليشمل الفرق الفلسطينية وجزءا من المقاومة العراقية وكل من اتخذ من هذا الأسلوب منهجا جهاديا .
والمفزع والغريب حقا أن هذه العمليات كلها أو معظمها لا تتم ضد عدو محارب فقط وإنما تأخذ معها العشرات من المسلمين أو العشرات من المدنيين من غير المسلمين , وفي حالة قتل مسلمين في تلك العمليات فان من يقوم بها ومن يخطط لها يكون قد قتل مسلما عمدا ويستحق من الله العذاب العظيم الذي توعد به من يقترف ذلك الإثم , ومن يقتل المدنيين الغير محاربين ولو كانوا من قوم العدو فقد عصى الله ورسوله .
وهكذا فإنه يكون قد مات على معصية عظيمة وليس أمامه فرصة للتوبة , فكيف به إذا وقف أمام الله معتقدا أنه شهيد فيحاسبه الله على قتل نفسه وقتل المسلمين عمدا وقتل أبرياء وأطفال غير مقاتلين؟ فأين يكون مصير هذا ؟ إلى الجنة أم إلى النار ؟!
إن هؤلاء يقامرون بآخرتهم ولسوف يعلمون .
وبطبيعة الحال كلنا يعلم ما حدث بعد تلك الفعلة , وما عاناه المسلمون في العالم أجمع من تصرف أحمق خرج من فرقة ضالة , أما ما حدث لهم بشكل خاص فهو أن احتلتهم أمريكا وقهرتهم في أرضهم و شردتهم وطردتهم منها , فتفرقوا في الجبال والكهوف والمعتقلات والقبور , وتولي الحكم في بلادهم موالون للمحتل , يحكمون بما يري وينفذون ما يحلم به .
وهكذا تبدلت الأحوال , وبعد الانتصار جاء الانكسار , وبعد عز الله جاء ذل العدو ,
ولم يبق من هؤلاء إلا بيانات وتسجيلات تظهر من وقت لآخر تصب جميعها في مصلحة من يكيدون لنا ويحتلون أرضنا , حتى تتشكك في ولائهم من الأصل وتذهب إلى تصديق الروايات التي تقول أن عملية 11 سبتمبر مفتعلة وقائمة على تخطيط أمريكي وتنفيذ القاعدة واشتراك تنسيقي إسرائيلي بشكل ما لتوفير المبرر أمام العالم لغزو أفغانستان , ووضع اليد على بحر قزوين ونفطه والهيمنة على المنطقة .
وبعد استعراض تجربة الإسلاميين في أفغانستان ومناقشة تلك الفعلة الغير شرعية للاستدلال على فساد القائمين عليها يمكننا أن ننتهي إلى توصيف أو نتيجة تلخص لنا ما جرى عبر سنوات تلك التجربة . فإنهم اجتمعوا فأصابوا الحق وقهروا عدوهم فمكن الله لهم , ثم تفرقوا واختلفوا ففارقوا الحق وهزموا وتمكن منهم عدوهم , فهل من معتبر ؟

ولو نظرنا نظرة سريعة على العراق لوجدنا نفس الحال والضياع وبصورة واضحة , فمن خلال اختلافاتهم المذهبية والعرقية بين سنة وشيعة وعرب وأكراد وغيرها اخترقهم عدوهم وتمكن منهم , وذهبت بعض فرقهم كالشيعة والأكراد إلى موالاة العدو بل والقتال معه جنبا إلى جنب في مواجهة العرب والسنة , فراح العرب والسنة يقتلون عموم الشيعة والمحتل يقف خلف دباباته في داخل حصونه يتفرج ويضحك ويحمد الله أن كان عدوه بكل هذا الغباء , وينتظر تصفية كل فرقة للأخرى حتى تتبقى فى النهاية فرقة منتصرة منهكة , فإما رضخت بالحسنى وإما كان القضاء عليها سهلا يسيرا .
هكذا فعلت الفرقة فيهم كما فعلت في فلسطين وأفغانستان وكلهم في أرض معركة , والضرورة الحتمية للكر والفر وتحقيق النصر أو الصمود على الأقل هي توحيد الصفوف والقيادة , ولكنهم لم يستطيعوا لأنهم مختلفون متفرقون في أحزاب ومذاهب ورؤى شخصية .
وهكذا سيكون حال كل بلاد الأمة إن لم يوحدوا جماعتهم ويقيموا دينهم الحنيف في دولتهم , ولن ينجو إلا من يفعل ذلك وهذا هو الواجب الشرعي الأول لكل مسلم يعيش على هذه الأرض بشكل عام وعلى كل منتم لمذهب أو جماعة أو حزب بشكل خاص.

أما لو امتد النظر إلى تاريخ الأمة القديم لوجدنا تاريخا أطول من الاختلاف والفرقة , سالت فيه دماء الأمة بسيوفها , ولن نلعق في تلك الدماء بألسنتنا بعد أن رحمنا الله من الاشتراك فيها كما قال عمر بن العزيز خامس الخلفاء الراشدين , ولكننا سنذكرها فقط دون الحديث فيها إمعانا في إثبات خطر الاختلاف والفرقة الرهيب والمدمر على الأمة.
فقد كان الأمر على طول التاريخ ودائما هكذا , اختلاف وتكايد ففرقة وفتنة فقتال وهلاك فاحتلال ولصوص يسلبون ما بقى منا .
ويبدأ هذا التاريخ مع الفتنة الكبرى والتي حولت حكم أمة الإسلام إلي ميراث يرثه بنو أمية ومنها ولدت الشيعة , والاختلاف على القدر و القراءات التى يقرأ بها القرآن وفتنة خلق القرآن والاختلاف على المذاهب الأربعة وكأنها ديانات أربعة , ثم اختلاف المخرفين من أتباع وعباد الرجال الذين ألهوا أولياء لله وقادة ولصوصا , وابتدعوا لهم المدارس الفكرية والمذهبية بل والعقائدية , ودافعوا عنها وتعصبوا لها وجاهدوا من أجلها حتى صارت هي دينهم الذي ينتمون إليه , وصار قائدهم حيا كان أو ميتا صالحا كان أم طالحا إلها يعبد من دون الله , والغريب في الأمر هو ضعف موقفهم جميعا وظهور فساده للعيان بمنطق العقل إن حيدت الدين , وأحيانا تجد فى مواقف بعضهم ومبادئه ما يدفعك للضحك سخرية منه , والبكاء لأن هؤلاء يعيشون بين هذه الأمة ويؤثرون فيها .

طريق الخلاص


طريق الخلاص

تمهيد :

من المنظور الإيماني نجد أننا عباد غير أحرار لرب كريم أمرنا باعتماد الإسلام كنظام حكم وبشرنا بالجنة إن فعلنا وتوعدنا بعذاب الجحيم إن لم نفعل , وهكذا فقد وجب اعتماد الإسلام كنظام حكم استجابة لأوامر رب العالمين .
ومن المنظور الديموقراطي الذى يؤمن به ويسوق له البار والفاجر نجد أنفسنا أمام أغلبية شعبية ساحقة تريد الإسلام كنظام حكم , وهكذا فقد وجب اعتماد الإسلام كنظام حكم تنفيذا لإرادة الأمة .
ومن منظور البحث عن المصلحة وتحقيق أقصى المنافع وتبعا لطبيعتنا وامكاناتنا لم نجد غير الإسلام كنظام حكم يستطيع أن يصل بنا إلى تلك الغاية , وهكذا فقد وجب اعتماد الإسلام كنظام حكم سعيا وراء المنفعة .
أي أننا وبأي منطق أمام حتمية التطبيق الإسلامي , وحين بحثنا فى كيفية التطبيق وجدنا عشرات المناهج والرؤى الفاسدة المتناحرة الموصوفة زورا بالإسلامية والتابعة لعشرات الفرق والجماعات الضالة المنسوبة ظلما للإسلام والمتأرجحة بين تطرف السفاحين وتفريط علماء السلاطين وشرك الوثنيين .
وهكذا فقد وجب علينا نحن عموم المسلمين المخلصين , من نعترف لله بالوحدانية ولنبيه بالرسالة أن نبحث جاهدين عن التطبيق الإسلامي الصحيح الغائب عن الأرض منذ زمن بعيد والدليل هو حال المسلمين كأحقر أهل الأرض .
وفى أثناء ذلك علينا أن نتفهم عدة أمور تمثل فروضا شرعية ومنطقية على عملية البحث لا يمكننا تجاوزها ومن أهمها :

- طبيعة وحدة الحق وحتمية وحدة أتباعه :
الحق واحد لا يتعدد كما يتعدد الباطل وذلك لأنه يمثل السبيل الوحيد لرب العالمين
يقول تعالى : (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون ). الأنعام 153
ويروى أن الرسول صلى الله عليه وسلم خط خطا على الأرض ثم قال : ( هذا سبيل الله ) ثم خط خطوطا عن يمينه وعن يساره ثم قال : ( هذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه ) رواه أحمد .
ولأن الحق واحد لا يتعدد فمن البديهي أن يكون أتباعه موحدين فى جماعة واحدة بحكم ولائهم للحق الواحد , ولأن الباطل متعدد فمن البديهي أن يكون أتباعه متفرقين فى جماعات مختلفة بحكم ولاءاتهم المتعددة .
لذلك كان اختلاف أهل الحق المكلفين بحمله والتوحد فى سبيله وتفرقهم فى جماعات ومذاهب مؤذنا بوقوع الفتنة وخروجهم جميعا من تحت لواء الحق وإضافتهم كجبهات جديدة للباطل , وهو ما يعنى تعطيل فاعلية الضمان الإلهي الممنوح لهم بالنصر والتمكين والاستخلاف فى الأرض لافتقادهم أهم شروطه وهو إقامة جماعتهم الواحدة الموحدة .
يقول رب العالمين : (وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ). المؤمنون 51-52

وفى أثناء هذه الفرقة يبقى الحق ممثلا فى أفراد وتجمعات صغيرة مبعثرة وغير فاعلة ومحرومة هى الأخرى من التدخل القدري بالنصر والتمكين لعدم اجتماعها , ويبقى ذلك التدخل القدري الذى يعبر عن سنة إلهية لا تبديل لها فى انتظار من يفعلونه بإقامة جماعة الحق التى لابد لها من السعي المخلص والجاد لتوحيد الصف واستنفاذ الوسائل فى إخماد الفتنة ونبذ الفرقة وتأليف قلوب المختلفين وإظهار الحق جليا لاستقطاب المخلصين منهم .
ولأن سبيل الحق الذى هو سبيل الله واحد ونحن مأمورون بإتباعه , فقد خلقنا الله عز وجل على فطرة سوية متوافقة مع الحق وقادرة على تمييزه من الباطل , لذلك كان الحق ظاهرا جليا لا يمكن للمخلصين المؤمنين بالله ورسوله أن ينكروه إذا ما دعوا إليه .

- مجال البحث :
يجب أن ينحصر مجال بحثنا فى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم الذى تم الدين فى حياته أصولا وفروعا , أما تراثنا الفقهي الجليل فإعدامه أو إحراقه كما يريد البعض هو الخبل بعينه , والاعتماد عليه فى تسيير أمور حياتنا فى هذا الزمان هو أمر يفوق الخبل , فالفقه هو الفهم والفهم متجدد بطبيعته , وهو علم يختص باستنباط الأحكام تبعا لظروف الزمان والمكان بما يحقق المصلحة ولا يخالف الشريعة .
وأكبر دليل على ذلك هو تغير آراء الإمام الشافعي صاحب أحد المذاهب الأربعة بين بغداد أولا ثم مصر , وتصنيف آرائه وفتاواه إلى الشافعي قديما والشافعي حديثا , وهو نفس الرجل ونفس الزمن .

وعلى ذلك فتراثنا الفقهي الجليل الذى ورثناه عن علماء عظام ثقات لا يصلح للاعتماد عليه فى هذا الزمان بشكل كامل لأنه وضع لزمان غير زماننا وأحوال غير أحوالنا , وكذلك لا يمكن تجاهله بشكل كامل لأن فى ذلك إهدار لثروة عظيمة أغلبها نافع وجحود بفضل الأجداد السابقين المخلصين الذين استطاعوا من خلال تجاربهم المختلفة أن يحتفظوا بدولتهم على قمة الدنيا عبر قرون ولم يسقطوا مثلما سقطنا .
بالإضافة إلى أن الاعتماد على ذلك التراث الفقهي يفتح باب الجدل والخلاف على مصراعيه فيقلل بذلك من فرص تحقق الإجماع ويسقط بنا فى ذات المستنقع الذى سقطت فيه الجماعات الإسلامية عندما توقف كل منها عند رؤية مذهب أو مجتهد مضى زمنه منذ قرون أو عشرات السنين , وراحت تجاهد لفرض هذه الرؤية على مجتمعها متناسية اختلاف الزمان والمكان .
وأمثلة ذلك فى تاريخنا الحديث كثيرة ومتعددة الا أن أوضحها وأكثرها تخبطا هو ما قامت به الجماعة الإسلامية والجهاد الإسلامي فى الثمانينات والتسعينات , حيث قامت وبناء على رؤى فقهية فاسدة بحمل السلاح فى وجه المجتمع واستحلال دمه وقتال الحكومة على اعتبار أن فى ذلك مصلحة وهى استنزاف العدو !!!
ثم توجت مسيرة التخبط باغتيال الرئيس السادات الأمر الذى دفع بهم إلى السجون من حينها , ثم وبعد ما يزيد عن العشرين عاما راجعوا أنفسهم واعترفوا بأخطائهم وأخرجوا لنا من داخل سجونهم كتبا ومؤلفات تفند رؤيتهم السابقة وتثبت خطأها بعد أن زرعوا الفتنة فى المجتمع وأوجدوا المبرر لقانون الطوارئ بقتلهم رئيس الدولة الذى قالوا عنه فيما بعد أنه شهيد فى قتال فتنة .
وعلى ذلك فنظرتنا لذلك التراث الفقهي فى أثناء بحثنا عن الصيغة المناسبة لتطبيق الشريعة فى زماننا يجب ألا تتعدى نظرة المستأنس المقارن , فلا قدسية لكلام إلا لكلام الله تعالى وكل بشر يؤخذ منه ويرد عليه إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وعلينا أن نضع نصب أعيننا محددا واحدا لنجاح تلك الصيغة وهو مدى تحقيقها لمقاصد الشريعة الخمسة التى جاءت الشريعة فى الأصل للحفاظ عليها وهى الدين والنفس والعرض والمال والعقل , فيكون كل ما يؤدى إلى الحفاظ على تلك المقاصد واجبا شرعيا , فالأهداف ثابتة لا تتغير بتغير الزمان أو المكان أما وسائل تحقيق هذه الأهداف وأساليب التعامل فهى متعددة وغير متناهية .

- الواقعية بلا تفريط :
إن معيار النجاح الأساسي لأي صيغة تطرح لإقامة الدين هو مدى البراعة والواقعية فى تعامل تلك الصيغة مع مفردات واقعها وقدرات مجتمعها دون تفريط فتدخل بذلك بأهلها فى جوار ربهم وولايته فيرزقهم وينصرهم ويحفظهم ويمكن لهم ويمكر بأعدائهم فلا يغلبون , فمهمتنا ومهمة الإنسان منذ بدء الخليقة والى قيام الساعة كخليفة فى هذه الأرض هى إيجاد صيغة للتفاعل الإبداعي مع ذلك الواقع المتجدد دائما تحقق الحفاظ على مقاصد الشريعة الأصيلة دون أن تتعدى الحدود الإلهية المفروضة على تحركاتنا .
وتبعا لمعرفتنا بأنفسنا وقدراتنا فعلينا أن نتيقن من أننا لسنا كالصحابة ولا يمكن لنا أن نعيد تمثيل مجتمعهم فى مجتمعاتنا لأننا غير مؤهلين لذلك .
وعلى ذلك وبناء على رغبتنا المخلصة فى تطبيق الشريعة لتحقيق المكاسب العاجلة والآجلة التى وعدنا الله بها إن أقمنا دينه على أرضه والتى لا يمكن لسواه عز وجل أن يضمنها لنا .
وعلمنا بأن الجنة التى وعدنا الله بها إن أطعنا درجات متعددة وليست درجة واحدة .
وحرصا على تحقيق الإجماع الذى يمثل شرطا رئيسيا للتمكين .
فإننا كمجتمع نبحث عن صيغة تطبيقية تضمن لنا مكانا فى أدنى درجات الجنة على الأقل , وتسمح لأصحاب العزم فينا وخيارنا ببلوغ الفردوس الأعلى دون أن يفرضوا على غيرهم ما فرضوه على أنفسهم .

طريق الخلاص

تحقيق المستوى الأساسي لتطبيق الشريعة بتفعيل الحد الأقصى للإجماع


المستوى الأساسي لتطبيق الشريعة هو الحد الأدنى من الأحكام والأوامر الشرعية الأساسية التى لا يستقيم التطبيق إلا بها , وغياب أي منها كفيل بنزع الصفة الإسلامية عن النظام , فهى تمثل العامود الفقري لنظام الحكم الإسلامي الذى لا يمكنه النهوض بدونه , ويظهر هذا فى قوله تعالى : ( هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَاب ) آل عمران 7

أما الحد الأقصى للإجماع فهو مجموعة الأحكام والأوامر الشرعية الأساسية التى لا يمكننا الاختلاف على وجوب اتباعها والالتزام بها وذلك لوضوحها الشديد وتماشيها مع فطرتنا الإنسانية ويدلل عليه الحديث الشريف : ( الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهة ) البخاري .

والمستوى الأساسي لتطبيق الشريعة هو ذاته الحد الأقصى للإجماع وذلك من فضل الله على عباده المخلصين , لنكون قادرين بشكل دائم على تصحيح المسار إن ضللنا وتفرقنا , ويكون الطريق أمامنا واضحا منيرا وكل ما علينا هو أن نضع أقدامنا فى أي نقطة منه بحسب استطاعتنا , المهم هو أن نكون على ذلك الطريق وإلا هلكنا .
وفى ذلك إقامة للحجة علينا لأن القدرة هى مناط التكليف وقدرتنا الدائمة على العودة لذلك الطريق الواضح هى محور اختبارنا على الأرض ولولاها ما كان حساب ولا ثواب أو عقاب .

والآيات المحكمات التى تعبر عن المستوى الأساسي لتطبيق الشريعة وتمثل حجة الرب على العباد وعصمته لهم هى الآيات البينات الواضحات الدلالة التى لا التباس فيها على أحد , وتمثل أصل الكتاب والشريعة الذى يرجع إليه عند الاشتباه والاختلاف فيحكم على ما دونه , فهى كل ما يؤمن به ويعمل به من أحكام وفرائض , وهى دائما قائمة بذاتها لا تحتاج إلى الرجوع لغيرها لفهمها .
أما المتشابه فهو ما تحتمل دلالته أكثر من وجه وأكثر من تفسير , ومنه ما استأثر الله عز وجل بعلمه دون خلقه فليس لأحد من الناس سبيل إلى علمه , والمتشابه دائما من الفروع التى يجب ردها للأصول المحكمة كأصل فى التعامل معها .

ولطبيعة الآيات المحكمات كانت هى الفيصل بين الإيمان والكفر وباب الدخول إلى الدين أو الخروج منه .
ولطبيعة الآيات المتشابهات كانت هى الابتلاء الذى نمر به جميعا ويحدد درجة إيمان كل منا بناء على أسلوب تعامله مع المتشابه ومقدار ما يرده منه إلى المحكم .

لذلك تخبر الآية أن الذين فى قلوبهم زيغ ( أي مرضى القلوب الذين يميلون عن طريق الحق ويتركون القصد ) يتبعون المتشابه من الكتاب ويفسرونه بحسب أهوائهم لتدعيم مواقفهم الفاسدة وإيهام أتباعهم بأنهم يحتجون على بدعتهم بالقرآن وذلك طلبا للفتنة وبثا للشبهات لإحداث حالة من اللبس والفرقة بين المؤمنين .

وهذا هو ما فعلناه جميعا إلا من رحم الله , فقد زاغت قلوبنا واتبعنا المتشابه من الكتاب فاختلفنا عليه , ثم زاد الزيغ وامتد إلى السنة النبوية فاختلفنا على قوة الأحاديث وضعفها وصحتها من عدمها , ثم اشتد الزيغ أكثر وأكثر فرحنا نبحث عن زلات العلماء واختلافاتهم وتحزبنا خلفها , وكنتيجة طبيعية لهذا الزيغ والضلال والإصرار على مفارقة الحق عطلنا المحكم من الكتاب لأنه لا يقوم إلا بجماعة متآلفة ترد الفروع إلى الأصول وليس العكس .
ولتوضيح ذلك وإسقاطه على أرض الواقع علينا أن نتعرف بشيء من التفصيل على منظومة الأحكام التكليفية والتى يندرج كل فعل نقوم به فى حياتنا تحت أحد أقسامها.
والأحكام التكليفية خمسة وهى الواجب والمستحب والمحرم والمكروه والمباح .

والواجب هو ما طلب الشارع فعله على وجه اللزوم بحيث يذم تاركه ويعاقب ويمدح فاعله ويثاب .
أما المستحب وهو الفضل أو السنة فهو ما طلب الشارع فعله بغير إلزام , بحيث يمدح فاعله ويثاب ولا يذم تاركه ولا يعاقب .
والمحرم هو ما طلب الشارع الكف عنه على وجه الحتم والإلزام فيكون تاركه مأجورا وفاعله آثما عصيا .
أما المكروه فهو ما طلب الشارع من المكلف تركه بغير إلزام بحيث يثاب تاركه ولا يعاقب فاعله .
أما المباح أو الحلال فهو ما خيرنا الشارع بين فعله وتركه ولا مدح أو ذم ولا ثواب أو عقاب على الفعل أو الترك .

وما حدث هو أننا أخطأنا وبشكل فظ ومقزز فى تسكين الأحكام والأوامر الشرعية التى تتعلق بأفعالنا كبشر فى أماكنها الصحيحة داخل منظومة الأحكام التكليفية سالفة الذكر , فراح كل منا يضع تصنيفا جديدا للأحكام بحسب هواه وعلمه , فرفعنا المستحب إلى مقام الواجب وأنزلنا الواجب إلى المستحب وجعلنا المكروه حراما والحرام مكروها , ثم أسقطنا أعرافنا وأفكارنا المريضة على المباح فجعلنا منه مكروها وحراما , وهو ما فتح الباب للمأجورين والمغرضين ليكون لكل منهم تصنيف يخدم موقفه وهو ما أدى إلى ما نحن فيه من تعطيل كلي للدين محكمه ومتشابهه .
ومحاولة إعادة تصنيف الأحكام التكليفية بالكامل وتسكينها فى مكانها الصحيح لن ينتج عنها إلا إضافة تصنيف جديد وفرقة جديدة إلى واقع الفتنة الذى نحياه مهما كان إخلاص هذه المحاولة ومدى جديتها ونضجها .

لذلك فالعقل المنصف والقلب المخلص لا يجد أمامه سوى طريقا وحيدا قادرا على نبذ الفرقة ورفع الفتنة وكشف الغمة واستنهاض الأمة , وهو تفريغ منظومة الأحكام التكليفية واعتماد المحكم من الشريعة الذى لا يمكننا الاختلاف فيه دون غيره وتسكينه فى مكانه الصحيح من منظومة الأحكام التكليفية من حيث كونه واجبا أو حلالا أو حراما .
ونرفع أيدينا وألسنتنا عن المتشابه الذى هو مجال اختلافنا والذى جعله الله فى الأصل ليكون ابتلاء يختبر به عباده ويتحدد على أساسه درجة إيمان كل منهم ومستوى تقواه وخشيته لرب العالمين فلا يكون بيننا فيه تلاوم أو خصام .

فإن فعلنا ذلك وهو أمر معلق بقرار حر منا يميز الله به الخبيث من الطيب فقد نجحنا فى الوصول إلى الإجماع على الحق وأقمنا دولة الإسلام الغائبة عن الأرض منذ زمن طويل , واجتماعنا على الحق يضمن لنا أن نصيب الحق فى كل ما نتعرض له من أمور الدين والدنيا لأن الأمة لا تجتمع على باطل , وبذلك نتمكن من صياغة رؤية فقهية فكرية وسطية معاصرة وفعالة من خلال مشاركة وتفاعل قوى الأمة مجتمعة وعلى رأسها علماؤها فى علوم الدين والدنيا وأهل الحكمة والحكم كمرحلة تالية للإجماع على المحكمات وغير متزامنة معها .

وهنا يجب علينا الإشارة وعلى سبيل المثال لا الحصر إلى الأحكام التكليفية التى تفرضها علينا الآيات المحكمات من حلال وحرام وفرائض لنتعرف على ما يجب علينا تغييره للوصول بالمجتمع إلى تحقيق المستوى الأساسي لتطبيق الشريعة .
فالمحكمات تختص بكل ما يتعلق بأركان الإسلام وضرورات ونواقض الإيمان , أما فيما يخص أركان الإسلام وشعائره فنحن نشهد أن لا اله إلا الله وأن محمدا رسول الله ولا يمنعنا أحد , ونصلى فى مساجدنا وأعمالنا ولا يمنعنا أحد , ونزكى عن أموالنا ونتصدق منها إن شئنا ولا يمنعنا أحد , ونصوم رمضان ونعشقه عشقا ولا يمنعنا أحد , ونحج ونعتمر متى شئنا وكيف شئنا ولا يمنعنا أحد .
وهكذا فإن هذا الجزء الخاص بأركان الإسلام من الآيات المحكمات تام فى مجتمعنا وليس علينا أية أعباء فى تغيير شيء منه .

أما فيما يتعلق بضرورات ونواقض الإيمان من الآيات المحكمات فمنها ما يتعلق بالعقيدة كالإيمان بالله وحده لا شريك له والإيمان بملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والحساب والجنة والنار , وهو أمر قائم بالمجتمع وفى كل الأحوال لا يسعنا سوى تقويته وتنميته وترشيده .
ومنها ما يتعلق بالمعاملات وتصريف شئون الناس وهذا هو محور الخلل وميدان العمل الذى يجب علينا أن نحدث فيه تغييرات وإصلاحات هيكلية رئيسية نستكمل من خلالها منظومة الأحكام التكليفية للآيات المحكمات للوصول بالمجتمع إلى تحقيق المستوى الأساسي لتطبيق الشريعة .
ومن هذه الأمور التى يجب اعتمادها أو إصلاحها ما يمثل التعامل معه أمرا سهلا ميسرا , ومنها ما قد يمثل فى نظر البعض عقبات شديدة أمام التطبيق الإسلامي مثل الحدود كنظام عقوبات , وطبيعة النظام السياسي وسلطات الحاكم فيه , والموقف من بعض أدوات النظام الاقتصادي كالفائدة والضرائب , والجهاد كعقيدة قتال فى زمن الحرب .
ولهذا يجب علينا مناقشة هذه العقبات بشيء من التفصيل لإزالتها من عقول من يعتقدون بوجودها وإثبات المكاسب المتحققة من اعتماد البديل الإسلامي .

العقبات


العقبات

الدولة فى أبسط تعريف لها هى شعب وسلطة وثروة وقوة تتفاعل فيما بينها وطبقا لنظام متفق عليه بهدف تحقيق مصالح الدولة , وتختلف الأنظمة التى تتبعها الدول فى إدارة ذلك التفاعل وبلوغ تلك المصالح تبعا لثقافة وطبيعة وإمكانيات المجتمع الذى تديره , ويلزم ذلك النظام كل فئة من الفئات بواجبات محددة ويمنحها فى مقابلها حقوقا على باقى الفئات تمكنها من أداء واجباتها .
فللشعب حق وعليه واجب , ولمن يعتلون السلطة حق وعليهم واجب , ولمن يملكون الثروة ويديرونها حق وعليهم واجب , ولمن يمسكون بالقوة حق وعليهم واجب , فإذا قام كل بواجبه وحصل على حقه كاملا تتحقق مصالح الأمة .
وبناء على ذلك وتبعا لثقافتنا وطبيعتنا وإمكاناتنا كان الإسلام هو النظام الأنسب لإدارة حياتنا وتحقيق مصالحنا , وعندما نظرنا إلى واقع حياتنا وجدنا أن النظام الإسلامي يسيطر عليه بالكامل إلا فى أربعة أمور رئيسية يتعلق كل واحد منها بفئة من الفئات الأربع الرئيسية المكونة للدولة , وكأنها اجتمعت جميعا واتفقت على أن يتهرب كل منها من أداء أحد واجباته الرئيسية فى مقابل سكوته على تهرب الآخرين كل من الواجب الذى يختاره , مما أدى إلى اختلال منظومة الحقوق القائمة على تلك الواجبات , فضيع كل منهم من حقوقه ما كان يستحقه إن قام بواجباته , وفى خلال ذلك كله وبسببه ضاعت المصالح العليا للأمة وتشتت قواها وفشلت فى بلوغ أي من أهدافها العليا أو الدنيا .
وهذه الأمور الأربعة الرئيسية والتى يتعلق كل منها بواحدة من الفئات الرئيسية المكونة للدولة هى الحدود وسلطات الحاكم ونظام الفائدة والجهاد .
فقد أراد الشعب قانونا وضعيا للعقوبات بدلا من الحدود يسمح بما تمنعه ويحلل ما تحرمه ويخفف العقوبة إلى حد التلاشى فيما لا فكاك من تجريمه والعقاب عليه , وذلك بغية التمتع بالملذات المحرمة التى يمنعها الإسلام , وقد قبلت باقى القوى الرئيسية بالمجتمع ذلك ودعمته ليكون لها المبرر هى الأخرى فى التهرب من أداء واجبها .
وبهذا تهرب أهل السلطة من الأخذ بمبدأ الشورى كنظام للحكم وحق للأمة على قادتها , فصارت سلطاتهم مطلقة يحكمون بما يرون ولا معقب لحكمهم ويفعلون ما يريدون ولا يسألون عن فعلهم .
وبهذا تهرب من يملكون الثروة ويديرونها من القيود التى فرضها النظام الإسلامي عل تحركاتهم وفرضوا على النظام الاقتصادي نظرية الفائدة وهى ما يمثل الربا فى التشريع الإسلامي ليضمنوا بذلك تكاثر أموالهم وزيادة ثرواتهم ولو كانوا نائمين بلا عمل .
وبهذا تهرب من يمثلون القوة الحامية للأمن والشرعية بالمجتمع من الجهاد كمنهج إسلامي يجب أن يحكم تحركاتهم ورضوا بالرضوخ لأهوائهم وأهواء من يحكمونهم بغية التنصل من الواجب والهروب من المخاطرة والتمتع بما يتمتع به مجتمعهم .
ولأن التطبيق الإسلامي لا يصح ولا يؤتي ثماره بدون أحد أركانه الرئيسية , فلابد لنا من مناقشة هذه الأمور بإيجاز لإثبات مكاسب اعتماد البديل الإسلامي .

الحدود كنظام عقوبات



الحدود

قد يختزل البعض تطبيق الشريعة فى إقامة الحدود , ويصورون للناس أنه إذا ما أعلن إقامة الحدود صباحا فإننا سنحصد البركات التى تنزل من السماء و تخرج من الأرض مساء , وفى ذلك تسطيح و تبسيط شديدان و عدم إدراك لجوهر الدين ومقاصده الحقيقية .
ولا يفهم من ذلك أننا ننكر الحدود أو نرمى إلى تعطيلها وإلا كنا من الجاحدين بآيات ربنا , وللخروج من هذه الدائرة و توضيح الأمر نذكر بقصة سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما أوقف حد السرقة فى عام تعرض فيه الناس للمجاعة .
أي أنه لإقامة حد السرقة لابد من توفير الحاجات الأساسية لأفراد المجتمع من مأكل و ملبس و مسكن وغيرها أولا, وبعد ذلك يمكننا الحديث عن تطبيق الحد أما قبل ذلك فلا , لأن الفقير إذا ما سرق ليسد جوع أطفاله فى مجتمع بخل فيه الغنى على الفقير واتسعت فيه الفجوة بينهما فإنه لا يمكن لومه على فعلته تلك .
وهذا يدفعنا إلى فكرة العدل دفعا , لأن إقامة العدل تسبق إقامة الحدود و تشرع لها , أما إقامة الحدود بدون إقامة العدل فهى ككلمة الحق التى أريد بها باطل , وذلك لأن واجب الإنسان فى الالتزام بعدم الاقتراب من النواهى التى تستلزم الحدود إنما خرج فى الأصل من حقوق وهبها الله له تكفل له عدم الاقتراب من منطقة الحدود , ولهذا فإن اقترب وقع عليه الحد لأن تجاوزه كان عن فساد لا عن حاجة , أما أن ننتزع من الإنسان حقوقه التى تستقيم بها حياته ثم نطالبه بالالتزام بواجباته وإلا أقيم عليه الحد فهذا سفه و هوى .
أي أن إقامة العدل هى أصل الشريعة و بناء عليها تقوم الواجبات و العقوبات .

و الأفعال المحرمة التى وضع الله لها الحدود كعقوبة هى فى الأصل منكرة و مجرمة فى كل دين و عرف إلا أن أسلوب العقاب عليها يختلف , ففى الإسلام العقوبة جسدية فى أغلب الأحيان وهى ثابتة و محددة بأوامر الله عز و جل , أما فى مجتمعاتنا وفى أغلب الأرض فإن الناس قد اتفقوا على السجن كعقوبة على كافة الجرائم , وبحسب قوة الجريمة و مدى ضررها تكون فترة السجن .
وإذا كان الهدف من العقوبة هو ردع من يفكر فى فعل الجرم الذى يستلزمها والأخذ على يد من يفعل هذا الجرم فلا يعود له , فإن نظام العقوبات الأمثل هو الذى ينجح فى تحقيق هذين الهدفين , فأي النظامين هو الأنجح و الأقدر على تحقيق هذين الهدفين , الحدود أم السجن ؟
وللإجابة على هذا السؤال فلابد من دراسة هذين النظامين كل على حدة من حيث تأثيره على المجتمع و الفرد وقدرته على الردع ومدى الصرامة فى تطبيقه .

فالسجن هو انتزاع الحرية بشكل كامل من الإنسان المخطئ و عزله عن المجتمع وحبسه بين أربعة جدران لأنه أصبح عنصرا هادما لابد من إقصائه ووضعه فى سجن كبير مع المجرمين و الخارجين عن القانون أمثاله , فيصبح هذا السجن أكاديمية على أعلى مستوى للإجرام و الانحراف الأخلاقي , يتعرف فيها المفسدون فى جميع التخصصات على بعضهم البعض و يتبادلون المعارف و التقنيات الحديثة فى عالم إجرامهم , ويشكلون فرق عمل جديدة تبدأ فى العمل الإجرامي بمجرد خروجها من السجن , فيصبح من سجن فى سرقة محفظة مثلا قادرا على سرقة بنك , و من سجن لأنه يتعاطى المخدرات أسطورة فى تجارتها , ومن سجن لأنه جرح صديقا له فى شجار عن غير قصد قادرا على إزهاق الأرواح .
وذلك لأننا قد نمينا لدى كل منهم حسه الإجرامي و سخطه على المجتمع الذى عزله و رغبته فى الانتقام منه , و عرفناه على أكابر المجرمين الذين صاروا أساتذته وقدوته فعلموه شتى أنواع الانحلال داخل السجن , فينتشر الشذوذ الجنسي كوسيلة لتصريف الشهوة الجنسية فى عالم غابت عنه القيم , و تنتشر المخدرات كوسيلة لقتل الوقت بالسجن .
وبانتهاء فترة العقوبة التى تتراوح بين شهور و عشرات السنين بحسب الجرم المقترف يخرج هؤلاء إلى المجتمع من جديد ناقمين عليه عاجزين عن الاندماج فيه , سواء بسبب ما أصابهم من خلل نفسي و أخلاقي أو بسبب تطور هذا المجتمع , أو بسبب نظرة هذا المجتمع لهم والتى تتوجس منهم خيفة و تنبذهم و تحبسهم فى أنفسهم , فيصبحون أعجز و أخطر من ذى قبل وترتفع لديهم القابلية لخيانة الوطن ككل .
ومن هذه السجون أيضا يخرج الفكر المتطرف و إرهاب المسلمين فى ديارهم قبل غيرهم بتفجير تجمعاتهم و أسواقهم , فالقهر الذى تعرض له من ينفذون هذه العمليات داخل سجون أوطانهم وسكوت مجتمعاتهم على حبسهم و تعذيبهم وما ينتج عنه من حقد على هذا المجتمع و رغبة فى الثأر منه , كل ذلك يؤدى بهم الى تلك الممارسات الشاذة التى تخرجهم هم أنفسهم من الدين الذى يتصورون أنهم يدافعون عنه .
ومن ناحية أخرى فان قدرة السجن كعقوبة على الردع غير كافية و تكاد تتلاشى فى شرائح معينة من المجتمع , فمثلا من يسرق لأنه لا يجد ما يأكله قد يرى فى السجن بديلا غير سيء حيث سيتوفر له المأكل و المأوى دون مقابل , ولا يهتم بما يعنيه السجن من قهر وانتزاع لحريته لأنه فى الأصل لا يشعر بآدميته حتى يفكر فى حريته , وتصبح حياته بين ممارسة الجرم الذى يدر عليه الدخل اللازم لتوفير أساسيات حياته وبين السجن , يخرج من السجن إلى الجريمة ومن الجريمة إلى السجن ولا يبالى بأيهما يكون , فهما لديه يستويان !
وفى مجتمع كمجتمعنا سيطر فيه سلطان الفقر على أكثر من نصف أهله , نجد عشرات الآلاف ممن هم على أتم الاستعداد لتحمل تبعات جرم غيرهم و دخول السجن بدلا منهم فى مقابل بعض المال الذى يصلح به حياته بعد خروجه من السجن , أي أنه يضطر إلى بيع حريته و سنوات من عمره فى مقابل توفير بعض أساسيات حياته والتى هى فى الأصل حق من حقوقه الأساسية الأصيلة حرمه منها الفاسد الذى سرقها من أموال الأمة ثم حبسه بدلا منه راضيا مقهورا بفقره فى مقابل بعض فتات مائدته , وتتكرر القصة كل يوم فيزداد الفاسدون و تزداد جرائمهم و يزداد المقهورون المسروقون المسجونون , و تزداد الهوة بين طرفي المجتمع .
ولو لم يجد هؤلاء الفاسدون من يتحمل عنهم العقاب فبما أن القانون فى الأصل قد وضعه بشرى طبقا لرؤيته , فمن حق بشرى آخر أن يتجاوز أو يصفح عن حق أمة بكاملها فى مقابل تسوية مربحة , ولو لم يجدوا البشرى الذى يتجاوز وهذا نادر , فإذا كان من الممكن تحويل السجن إلى فندق خمس نجوم ببعض النفقات البسيطة نسبيا عن طريق بشرى ثالث فلا بأس وذلك حتى يتمكنوا من الهروب من السجن فيما بعد عن طريق بشرى رابع ثم الهروب من البلاد عن طريق بشرى خامس .
كل ذلك يجعل من الجريمة و الفساد مشروعا مربحا و مغامرة مقبولة بل و مغرية , حيث أن عواقبها السيئة قليلة و محدودة ويمكن تفاديها بسهولة , ويكون العنصر الحاكم فى تنفيذ هذا المشروع هو تكاليفه وهى ما سيدفع للمتجاوزين هنا و هناك ويتحدد بقدر المتجاوز وقيمة تجاوزه وما حصل عليه المجرم الأصلي صاحب المشروع .
وهكذا نشأ سوق الفساد بقوانينه و أعرافه و تسعيراته , و تضخم و تعملق و تشعب حتى صار هو السوق الحاكم المسيطر على السوق الكلى و الحياة العامة , فأي ردع قد يمثله السجن لأمثال هؤلاء ؟!
ومن جانب آخر , وبعيدا عن عنصر الردع الغائب فى عقوبة السجن , فإن السجن وما خلفه من قوانين عاجزة و مؤدية إليه يمثل دافعا لشريحة من الشرفاء أو لمن تبقى منهم نحو الجريمة , فمثلا إذا قتل أحدهم أباك وكان عقاب المجتمع له هو بضعة سنوات من السجن فان ذلك قد لا يشفى غليلك , وقد تسعى لقتل ذلك القاتل بأى ثمن خاصة و أن شرع الله يقر القصاص ولكن مصيرك سيكون السجن , فكيف يستوى القاتل ظلما و القاتل قصاصا ؟!
وإذا اغتصب أحدهم زوجتك أو ابنتك وكان عقاب المجتمع له هو الحبس فان ذلك قد لا يشفى غليلك , ولابد أنك ستسعى لقتل هاتك الأعراض هذا بأي ثمن ولكن مصيرك سيكون السجن , فكيف يستوى هاتك الأعراض و المدافع عنها ؟!
وقس على ذلك عشرات الحالات والتى تمثل عقوبة السجن فيها عنصرا مستفزا للمجني عليه أو لوليه يدفعه للثأر بتنفيذ شرع الله أو بتنفيذ ما يراه مناسبا من وجهة نظره ليشفى غليله .
هذا بالإضافة إلى التأثير السلبي الممتد لعقوبة السجن على أهل المسجون , فهى تمثل سبة تلاحقهم وتحرمهم من كثير من حقوقهم فتدفعهم بذلك إلى الجريمة ما داموا موصومين بها على أي حال , كما تمثل عقابا لزوجة المسجون بحرمانها من حقوقها الزوجية وهو ما قد يفتح بابا جديدا للرذيلة .
من كل ما سبق يظهر جليا أن السجن كنظام عقوبات وكل ما يؤدى إليه من قوانين هو نظام عقوبات فاشل لا يمكنه حفظ المجتمع ولا يستطيع توفير الحد الأدنى من الردع اللازم لإبعاد الناس عن فكرة تجاوز النظام العام , و تجربتنا معه كأمة أثبتت بما لا يدع مجالا للشك أنه كان من أكبر أسباب ضياع الحقوق بين الناس و تحللهم من واجباتهم وانتشار الفساد وتوغله فى شتى مجالات الحياة العامة .
أما الحدود فهى نظام عقوبات إلهي شرع الله فيه عقوبة خاصة لكل جرم قد يقترفه الإنسان الذى هو خلق من خلق الله , فمثلا القاتل يقتل و الزانى يجلد أو يرجم والسارق تقطع يده , وإيماننا بالله يقتضى الإيمان بأن إقامة هذه الحدود فى مجتمعاتنا كفيل بدحر الفساد و الرذيلة و حفظ الحقوق , كذلك فإن تاريخ هذه الأمة يثبت أنها ما سادت و تفوقت إلا بتطبيق الشريعة وإقامة هذه الحدود , وما هانت و تقزمت إلا بترك الشريعة و الحدود .
ولكن نبدأ بفكرة مدى الصرامة فى تطبيق الحدود و الهدف منها لأن البعض قد يرى فى الحدود عقوبات مغلظة عنيفة , ويرى فى تنفيذها ظلما للمجتمع ولمن قام بالجرم الذى استوجبها , ولهؤلاء نوضح من خلال مثال مباشر وليكن حد الزنا المقصود بالحدود والهدف الحقيقي من وراء تطبيقها .
فإذا كان حد الزنا لا يطبق إلا بشهادة أربعة شهود يشهدون بأنهم قد شهدوا واقعة الزنا وعلى يقين من حدوثها ومن طرفيها المتورطين فيها , فهنا نسأل بالله , من ذا الذى يزنى على وجه هذه الأرض و يراه أربعة أشخاص إلا إذا كان يزنى فى مكان عام أو على الأقل غير مستور , بمعنى أنه قد جهر بجريمته ولم يهتم بسترها عن الأعين , فالزانى حين يزنى يعلم أنه يقترف إثما بالفطرة , ويسعى بطبيعته الإنسانية إلى الاختباء بفعلته عن أعين الناس , أما إذا صار الإنسان كالحيوان و خالف فطرته وجهر بالزنا أو لم يهتم بستر نفسه ورآه الناس , ولا نقول فردا أو فردين أو ثلاثة وإنما أربعة فإنه يصير مستحقا للعقاب الذى يردعه و يردع غيره , ومن هنا يظهر أن حد الزنا ليس عقوبة على فعل الزنا وإنما هو عقوبة على من جهر بالزنا .
وقد يرى البعض أن توقف تطبيق حد الزنا على شهادة الشهود الأربعة يسهل على كل من يحمل ضغينة لإنسان أن يشترى شهودا بالزور فيشهدوا أنهم شاهدوه أو شاهدوها فى حالة الزنا و يقام الحد , وقد يكون الأمر بهذه السهولة إذا ما كان المشرع الذى شرع تلك العقوبة بشريا مثلنا يخطئ و يصيب , وقد يترك مثل هذه الثغرة لحاجة فى نفسه أو فى نفس من وكل إليه العمل , أما و المشرع هو رب العالمين الذى يعلم السر و أخفى فإن الأمر يختلف , فقد وضع الله جل و علا لعلمه بمن خلق حدا آخر لمن يتجرأ على أن يشهد زورا أو يتهم بريئا بالزنا وهو حد القذف , وفيه يجلد من اتهم بريئا بالزور ولا تقبل منه شهادة بعد ذلك وفى ذلك ردع شديد وعقوبة مغلظة على فعل من أفعال اللسان قد يبدو للبعض هينا ولكنه عند الله عظيم .
ووجود الشهود الأربعة أمر حتمي لإقامة حد الزنا , ولا يمكن إقامة الحد بأقل من أربعة شهود ولو كان فيهم ولى أمر المسلمين عامة , فلو شهد ثلاثة مثلا على واقعة زنا فإن شهادتهم لا يؤخذ بها بل و يقام عليهم الحد لأن نصاب الشهادة لم يكتمل , وللتدليل على ذلك نذكر قصة أمير المؤمنين سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما شاهد واقعة زنا بأم عينه فذهب إلى مجلسه و أخبر أهل الشورى بما رأى فقاطعه الإمام على كرم الله وجهه قائلا حسبك يا أمير المؤمنين , فقال عمر لقد رأيت بعينى , فيرد الإمام على : لو نطقت باسمهما أقمنا عليك الحد , فسكت أمير المؤمنين و خليفة المسلمين و رئيس أعظم دول الأرض فى زمانه سيدنا عمر بن الخطاب , ويمكننا من خلال هذه القصة أن نستخلص عشرات الدروس و العبر التى ينصلح بها حال الأمة عامة ولكن يكفينا ما ينفعنا فى مقامنا هذا وهو ضرورة وجود الشهود الأربعة الذين لا يقوم مقامهم شخص ولو كان أفضل أهل الأرض عند الله و أعلاهم شأنا بين الناس , ولإثبات نفس الفكرة نذكر قصة لنفس الرجل وهو الفاروق عمر بن الخطاب حين جاءه أربعة رجال يشهدون على واقعة زنا , فشهد ثلاثة وقال الرابع أنه شاهد الواقعة ولكن الرجل الذى كان مع المرأة المتهمة يشبه زوجها , فما كان من عمر إلا أن أقام الحد على الثلاثة الآخرين بعدما رأى أن شهادة رابعهم لا تدعمهم .
مما سبق تظهر ضرورة وجود الشهود الأربعة لإقامة حد الزنا والذين يتعذر وجودهم فى الحياة الواقعية إلا إذا كان الزانى كما ذكرنا يجهر بخطيئته .
ومن ناحية أخرى فالحد يسقط بالشبهات وبرجوع المقر على نفسه عن إقراره , والستر هو الأوجب سواء كان ستر النفس أو الناس , فالزانى عليه أن يستر نفسه فلا يعترف بجريمته إذا كان الله قد ستره عن عيون الناس , وعلى الناس أن يستر بعضهم بعضا فى غير تدليس , وعلى الحاكم ألا يسعى لكشف ستر الناس والتلصص على حياتهم الخاصة , فواجبه هو إقامة الحد على من كشف الله له ستره وليس تعيين حارس لكل مواطن يراقب تحركاته ويتصيد أخطاءه , فعن أبى هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( ادرأوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم , فان كان له مخرج فخلوا سبيله , فإن الإمام إن يخطئ فى العفو خير من أن يخطئ فى العقوبة ) .
وكذلك قصة الرجل الذى جاء لرسول الله صلى الله عليه وسلم ليخبره بأنه قد زنا محاولا التخلص من عبء الذنب و تطهير النفس , فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلك قبلت , فقال لا بل زنيت , فقال له لعلك ..... ثم لعلك ..... , مما يدل على أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يحاول أن يخرج بالرجل من جرم الزنا الذى اعترف به إلى معصية أهون , حتى أقر الرجل بالذنب أربع مرات فأقام عليه الحد ,وأثناء إقامة الحد رجع الرجل عن إقراره وهرب فلحقه الناس وقتلوه فلامهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك قائلا ( هلا تركتموه ؟! ) ثم أوصى صلى الله عليه وسلم ألا يكشف أحد ستر الله بعد أن ستره ويفضح نفسه .
من كل ما سبق يظهر أن المقصود بحد الزنا ليس من زنا وإنما من جهر بالزنا , وأن الغرض من العقوبة هو الردع وليس التطبيق , لأن الشرط الذى اشترط للتطبيق يصعب حدوثه فى أرض الواقع إلا مع من أراد الله أن ينتقم منه و يحرمه من ستره , ولا يكشف الله ستره عن إنسان فى جرم يقترفه إلا إذا كان هذا الإنسان قد اعتمد ذلك الجرم كجزء من حياته , فالهدف الرئيسي من تطبيق حد الزنا هو إخلاء المجتمع من الداعرات و القوادين و المتاجرين بأعراض الناس , وهؤلاء هم المتضررون الوحيدون من تطبيق هذه العقوبة , وهؤلاء من تفهم معارضتهم لتطبيق الحد , بينما لا تفهم معارضة غيرهم إلا أن يكونوا أمثالهم أو أن يكونوا من المستفيدين بشكل ما من شيوع الفاحشة و الرذيلة فى المجتمع , أما الشرفاء أو من يخطئون بحكم بشريتهم وضعف إيمانهم و إرادتهم فلا يشكل لهم تطبيق هذا الحد أى ضرر بل يعصمهم من احتمالات الوقوع فى الرذيلة بعد أن ردع قادتها و محبيها والساعين لنشرها فى المجتمع .
و بالنسبة لباقى الحدود عموما فالهدف الرئيسي واحد ويجمع بين تحقيق الحد الأقصى من الردع الذى يمنع الناس من التفكير فى الاقتراب من الجرائم التى تستوجب الحدود والحد الأقصى من التضييق على فرص تنفيذ العقوبة فعليا , وكل ذلك لا يكون إلا بعد توفير مناخ عام من العدالة وإحقاق الحقوق التى كفلها الله للناس والتى تعصمهم أصلا من الوقوع فيما يستوجب العقاب .
وباقى الحدود كحد القتل أو السرقة أو شرب الخمر أو الحرابة لا يخشاها ويقاومها ويرفض تطبيقها إلا قاتل أو سارق أو مدمن خمر أو مفسد فى الأرض يخون أمته ويكيد لها , وذلك لأنه فى حالة كونك إنسانا عاديا إن أخبرت أن من يقتلك سيقتل فإن ذلك ولابد سيشفى غيظك حين تتخيل أن يدا ستمتد إليك لتقتلك , بل وربما تطلب فوق قتل صاحب هذه اليد تمزيق جثته انتقاما منه , لأنه فى غياب سبب شرعي للقتل كالجهاد أو القصاص أو غيره فان القتل يكون خطيئة كبرى يستحق مقترفها السحق لا القتل فى نظر المقتول ووليه وكثير من الناس .
وكذلك الحال إن أخبرت أن من يسرق منك شيئا سنقطع يده حفاظا على حقوقك فلابد وأنك سترضى بذلك وترى فيه تهديدا كافيا لمن تسول له نفسه الاعتداء على ما تملك , وإن أخبرت بأن شخصا ما أدين بتهمة خيانة الوطن مثلا فلابد وأنك ستطالب بتمزيقه إربا , وذلك لأنك أبيت وبشدة أن يحيا بيننا من يهدم ما نبنيه ويكيد لنا ويكون عينا لعدونا علينا .
أما إن كنت أنت القاتل الذى يخشى أن يقتل أو السارق الذى يحب الاحتفاظ بيده أو مدمن الخمر الذى لا يفكر مطلقا فى الإقلاع عنها أو أحد المفسدين فى الأرض على اختلاف أحوالهم و أهدافهم , فلابد وأنك ستقاوم تطبيق الشريعة ككل وإقامة الحدود بشكل خاص وتصفها بالرجعية وغيرها من الصفات المجهزة فى قوالب منذ عشرات السنين والتى سبقك إليها أجدادك من القتلة و الفجرة .
وهكذا يصير الناس إلى صنفين , فإما رجل لا يظلم ولا يحب أن يظلم , وإما ظالم محترف يرفض أن يحاسبه أحد أو أن يوقف ظلمه أحد , وتبعا لحجم كل من الصنفين و قوتهما فى مجتمعهما يكون الشرع الحاكم .

ومن ناحية أخرى وبمقتضى إيماننا بالله واليوم الآخر فعلينا ألا ننظر للحدود على أنها مجرد عقوبات تنفذ فى الدنيا هدفها الردع وحفظ الحقوق والأعراض , وإنما هى حق من حقوق الله ورحمة منه يطهر بها عبده المخطئ فى الدنيا فيلقاه يوم القيامة مطهرا لا يحمل وزره على ظهره , ولو لم يطهر العبد من ذنبه فى الدنيا بإقامة الحد عليه فسيطهره الله منه يوم القيامة بعذاب الجحيم , فأيهما أيسر عند كل ذى عقل , عذاب جهنم فى الآخرة أم إقامة الحد فى الدنيا ؟!!

وسبحان الذى خلق الإنسان وشرع له من النظم ما تستقيم به حياته بناء على علمه بمن خلق , ولكن الإنسان ظلوم جهول !